28 أكتوبر 2025

تسجيل

سيرورة التطرف والداعشية.. ودورنا جميعا

20 يوليو 2015

من دون التقليل من كل المعارك الخارجية المفروضة على المنطقة وشعوبها، يبدو أن معركة داخلية ليست بالسهلة، إن لم تكن دموية، يجب أن تُخاض أيضا ضد التطرف والتعصب وما ينتجان. في طول وعرض العالم العربي وفي كل بلدانه تقريبا ومن دون استثناء تتصاعد منحنيات التطرف لدى شرائح ليست بالقليلة، ولا الهامشية. والاستجابات التي ترسلها تلك الشرائح لدعوات التطرف وممثليها ومنظماتها مقلقلة إلى أبعد حد. التعاطف المُعلن أو المُستتر مع الحركات المسلحة والمتطرفة والدموية مثل داعش والقاعدة وأخواتهما وما هو قريب منهما، يجب أن يبعث على الخوف العميق على مستقبل الشعوب وناسها وبلدانها.تطرف المجتمعات أو شرائح عريضة منها والانحدار إليه حالة سرطانية مرعبة تحدث بالتدريج وقد تصل إلى نقطة مدمرة حيث تجلب الموت والانهيار للمجتمع والوطن في لحظة يحدث فيها الانفجار الكبير، والتي عندها تفلت الأمور عن السيطرة والقدرة على المعالجة، يكمن خطر التطرف والتعصب وخطاباتهما في توليد المناخ القابل للقتل والاستئصال عند شريحة من المجتمع، أو عنده كله، بحق "الشرائح والمكونات الأخرى". ولا يحدث هذا المناخ أو يتولد في لحظة زمنية واحدة أو عقب حدث معين، بل يحتاج إلى "سيرورة تطرفية" تتطور على مدار فترة زمنية كافية لإنضاجه، مثلا، لا يمكن تخيل بروز الحالة التطرفية الطائفية الراهنة بين الشيعة والسنة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كرد فعل على حادثة تفجير طائفي منعزلة أو شيء شبيه بها، عمق التعايش ورسوخه آنذاك كان أكبر بكثير من أن يتم تذريته بحادث أو حتى مجموعة حوادث تندلع من منطلقات طائفية.السيرورة التطرفية ومنحنيات التعصب التي انحطت إليها المنطقة منذ عقد الثمانينيات على الأقل والتي تسببت فيها صراعات ومنافسات الخمينية الشيعية والسلفيات السنية، استهلكت الإرث التعايشي العميق عند شعوب المنطقة، واستنزفته إلى الحد الأخير. تحالفت الإسلاموية بتنوعاتها المختلفة مع تلك الصراعات وعملت على تديين المناخ العام وتلوين أفكار وسلوكيات الناس بالنظرة الدينية الضيقة المناقضة للنظرة المواطنية، وفي خضم فوضى الأجندات المحلية والإقليمية، التنافسية بين الدول المُستخدمة للأديان والطوائف، والإسلاموية بين الحركات التي كل منها يدعو لفكرة معينة (الخلافة، الأسلمة، الجهاد،...)، كان الضحية الأولى والأهم هو فكرة المواطنة والتعايش داخل أوطان ما زالت في طور التشكل، وما زالت الأسس المدنية والدستورية والمواطنية المكونة لها طرية ولم تترسخ بعد. على ذلك، فإن الجزء اليسير من الطريق الذي كان قطع باتجاه دولة المواطنة، والمتباين تبعا للبلد المعني، تم إيقافه وإجبار الناس على العودة إلى الوراء بحثا عن ولاءات وهويات ما قبل الدولة الحديثة وما قبل المواطنة.وهكذا وخلال أربعة عقود كاملة على الأقل اشتغلت الطائفية الإقليمية والإسلامويات المحلية على تحطيم فكرة الدولة المواطنية، وعلى اختطاف المجال العام باسم الدين، وعلى تديين كل الممارسات السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو تديين محازب ومنحاز بحسب الجهة صاحبة النفوذ والسيطرة في هذا البلد أو ذاك، أو هذا الجزء من البلد أو ذاك. كان ذلك جزءا من "سيرورة التطرف" التي نقطف حصادها اليوم، لذلك لا يمكن محاصرة هذا التطرف عبر محاصرة العناصر والمنظمات والأحداث المتطرفة. علينا أن نعترف أن المطلوب هو أكبر من ذلك وأخطر بكثير، وله علاقة بمعالجة مناخ التطرف وجذوره وخطاباته المُستبطنة في معظم مجالات اشتغال السياسة والاجتماع والثقافة والدين. لنتأمل مثلا الضجة الإعلامية والسياسية التي قد تنفجر في أي بلد إزاء أي حادث مسلكي هامشي وتافه لفرد أو مجموعة أفراد، أو لممارسة صوفية مثلا، أو لتعبير ديني مغاير لتعبيرات التي تعتنقها الأغلبية، حتى نرى عمق ثقافة الاقصاء والاستئصال التي صارت سمة قاتلة ودموية من سمات الاجتماع السياسي والثقافي في مجتمعاتنا.إحدى الآليات وسيرورات التطرف المُكونة للتطرف (ثم للتدعشن لاحقاً) تكمن في التعليم ومنهاجه ومناظيره، وهو التعليم الذي أقحم فيه الدين والتدين لانتزاع وتعزيز شرعيات سياسية للنظم الحاكمة. لكن تلك العملية الهادفة إلى تعزيز الشرعيات انتجت معها وخلال عقود طويلة أجيالا مشوهة من أشباه متدينين، فاقدين لمعنى ومفهوم المواطنة، وهو ما قد أشار إليه كاتب هذه السطور في مقالات سابقة. يدفع هذا وغيره كثير إلى فتح ملف في غاية الأهمية وهو إحالة مسؤولية مواجهة التطرف وسيروراته إلينا جميعا وليس حصرها بالحكومات، فالمجتمعات عمليا وأولا وآخرا هي الخاسر الأكبر من وقوع المجتمع ضحية فكر الاستئصال والتصفية. هناك ضرورة ملحة للإقرار أولا بتغلغل الوباء التطرفي في جسد المجتمع وتضخمه عند بعض الشرائح، وبداية ظهوره عند شرائح أخرى، والكف عن خطاب الاعتذارية والانخراط في الجدل العقيم حول مسؤولية الآخر أم عدم مسؤوليته عما نحن فيه. السؤال والتحدي الحقيقي هو مواجهة هذا المرض وإيقافه، ولنفترض أن الآخر هو المسؤول الأول والأخير عن ذلك فإن هذا الآخر لن يعبأ بتقديم الحل لنا. والجانب المهم في هذه المواجهة هو ضرورة حشد وتفعيل مكونات المجتمع التي مازالت تتمتع بعدم الإصابة بالتطرف للانخراط في مكافحته. وما صار مطلوبا وملحاً هو قيام المجتمع المدني والأهلي والديني المعتدل بحملات مكافحة التطرف في كل مناحي الحياة، بدءا بالتفسير الأحادي والتعصبي للدين ومناهج الدراسة والتعليم ثم الإعلام وليس انتهاءً بأنماط السلوك الاجتماعي وسيادة الأحكام المسبقة على الآخرين بسبب اختلافهم عن مُصدري تلك الأحكام في الفكر والمعتقد والسلوك.