16 سبتمبر 2025
تسجيلمازال الكثير من نقاد وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري ينظر ويقارن بين الممارسة الإعلامية في الغرب وفي الدول النامية من نفس الزاوية وبنفس المقاييس والمعايير ويضع التجربتين في نفس الخانة رغم أن المقارنة غير عادلة لعدة اعتبارات من أهما تاريخ التجربتين وكذلك الممارسة السياسية ومكانة الفرد والمجتمع المدني في المجتمع …الخ، لكن هذا لا يمنعنا من القول أن الممارسة الإعلامية هي وليدة بيئتها ومادام أن البيئة السياسية والاقتصادية سواء في الغرب أو في الشرق وسواء في الشمال أو الجنوب تشوبها شوائب وتميزها تناقضات وتجاوزات فإنها تنعكس على العمل الإعلامي اليومي للمؤسسة الإعلامية وللقائم بالاتصال. ومن التقنيات الفنية المستعملة بالاشتراك ومناصفة بين الشمال والجنوب مصطلح " الأمن القومي". اتصفت العلاقة بين الحكومات ووسائل الإعلام عبر العصور وعبر الدول بصراع دائم بين من يسيطر ومن يتحكم في تدفق المعلومات والأخبار، وإذا كان الأمر محسوم مسبقا لصالح السلطة في الدول النامية والدول التي تسعى جاهدة لتحقيق الديمقراطية فالأمر غير ذلك في الكثير من الدول الديمقراطية التي تسيرها قوانين ودساتير ومواثيق والتي تنعم بالمؤسسات والتقاليد والأعراف في ممارسة القانون والسياسة والإعلام …الخ، لكن هذا لا يعني أن في الدول الديمقراطية المؤسسة الإعلامية والقائمون بالاتصال يصلون دائما إلى مصادر المعلومات وينشرون كل الأخبار والأحداث والأسرار بكل حرية وبكل سهولة، الأمر ليس كذلك على الإطلاق فكواليس الصحافة حتى في أعتق الديمقراطيات في العالم تتكلم عن تجاوزات وعن تصرفات عادة ما تخرج عن مبدأ حرية الصحافة ومبدأ السوق الحرة للأفكار. و من أهم التقنيات التي تستعملها الحكومات في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على السواء عبارة "الأمن القومي". لكن هنا يجب علينا أن نفرق بين الممارسة الإعلامية بين النظامين. ففي الدول الديمقراطية حيث تكميم الصحافة ولجمها ليس بالسهل نلاحظ اللجوء إلى مصطلح مثل "الأمن القومي" وهو مصطلح مطاطي في مختلف الدول والثقافات والحضارات. ومصطلح الأمن القومي نجده في مختلف القوانين والدساتير الإعلامية لكن مفهومه عند السلطة يختلف عنه عند المؤسسة الإعلامية والصحافي وعند الشعب عامة. وهنا نلاحظ الصراع الدائم بين الحكومة التي تسعى للتحكم في تدفق الاتصال والمعلومات الحساسة باسم الأمن القومي وبين المؤسسة الإعلامية والساهرين عليها والذين يسعون ليل نهار ويخاطرون من أجل إيصال المعلومة للرأي العام. وانطلاقا مما سبق فإن أي حكومة في العالم ومهما كانت درجة ديمقراطيتها ونضجها السياسي تحاول أن تتحكم بطريقة أو بأخرى في المؤسسة الإعلامية وتسعى لمغازلتها ومحاباتها من أجل استغلالها واستخدامها في الاتجاه الذي يخدمها ويخدم السلطة قبل خدمة الرأي العام. والإيمان الراسخ بأن الممارسة الإعلامية سليمة في الدول الديمقراطية مغالطة كبيرة حيث إننا وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها وسائل الإعلام "تفبرك" الواقع وتصنعه أكثر مما تقدمه للرأي العام وأصبح "الشاو بيز" والجري وراء الربح عبر الإعلان هو الهدف الأسمى. ما حدث في حرب الخليج الثانية والثالثة وما حدث في غزو جزيرة "غرينادا" وفي حرب "الفولكلاند أيلاند" وما حصل في حرب فيتنام وفي حرب الجزائر وفي "كوسوفو" وفي "الشيشان" ما هي إلا أدلة دامغة على أن الصراع على السيطرة على المعلومة باسم "الأمن القومي" أصبح يحسم دائما لصالح الحكومات والسلطة وتبقى المؤسسة الإعلامية لا حول ولا قوة لها في معظم الأحيان بسبب التواطؤ وأحيانا أخرى بالقهر. و الغريب في الأمر أن المؤسسة الإعلامية في الدول الديمقراطية الغربية نجدها تكيل بمكيالين، فإذا تعلق الأمر بالشؤون الداخلية نجد أن هذه المؤسسات تضغط وتمارس كافة حقوقها وصلاحيتها وما يكفله لها القانون للوصول إلى الحقيقة وتقديمها للرأي العام، أما إذا تعلق الأمر بالشؤون الخارجية فالموضوع يختلف تماما. وهنا نسرد أمثلة تاريخية كثيرة منها اغتيال" سلفادور أليندي" وكيف تصرفت معه وسائل الإعلام الغربية، وماذا عن اغتيال رئيس الوزراء الإيراني" مصدق" وماذا عن اغتيال "شي غيفارا" وما ذا عن أكثر من مائة محاولة لاغتيال "فيدال كاسترو" وماذا عن اغتيال "مهدي بن بركة" و " باتريس لومومبا" والقائمة قد تطول. الموضوع باختصار هو أن حرية الصحافة تنعدم أو تنهار تماما وتتبخر عندما يتعلق الأمر ب"المصالح القومية" و ب ا"لأمن القومي" ولو كان هذا على حساب الرأي العام وعلى حساب الأخلاق وقوانين المهنة وحق الفرد في الاتصال والمعرفة. فالسياسة لا تعرف الأخلاق وبذلك فإنها لا تعترف بأخلاقيات الممارسة الإعلامية. وهذا ما يقودنا للكلام عن مستلزمات الإعلام القوي والفعال في الوطن العربي وفي أي مجتمع والتي تتمثل أساسا في حرية التعبير وحرية الرأي وحرية الوصول إلى المعلومة، هذه المستلزمات يجب أن نعمل على توفيرها وعلى اكتسابها كسلطة وكقائمين بالاتصال وكمثقفين وباحثين ووسطاء ثقافيين...الخ، وبدون هذه المستلزمات فإنه لا يحق لنا الكلام عن المجتمع المعلوماتي والثورة الاتصالية والعولمة الثقافية وغيرها من التحديات العديدة والمختلفة التي نعيشها اليوم وبوتيرة فائقة السرعة. فالنظام الإعلامي العربي الراهن يحتاج إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج إلى مراجعة مع الذات وهذا للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع. السلطة في الوطن العربي ومع الأسف الشديد ما زالت تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم.السلطة في الوطن العربي ما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعّال. ونتيجة لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال وليس سلبي يستقبل ويُؤمر، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وليس التلميع والتلوين والتملق.