14 سبتمبر 2025
تسجيلفي مذكراتها التي أصدرتها تحت عنوان خيارات صعبة، حرصت هيلاري كلينتون على إظهار سعيها إلى إحداث تغييرات في الشرق الأوسط من قبل نشوب ثورات الربيع العربي، وصدرت فصلها عن الربيع العربي بعبارة تقول فيها، إن الحكام العرب يجلسون على برميل من البارود، وإذا لم يتغيروا فإنها سرعان ما ستنفجر بهم. ويظهر من خلال أسلوبها محاولة إضفاء الطابع البطولي، والبروز بمظهر المرأة التي تسير عكس التيار، والقادرة على اتخاذ القرارات غير الاعتيادية، أو التي لا تتهيب من مواجهة الآخرين بعيوبهم وتوجيه النقد المباشر لسياساتهم، حتى إنها تصف دهشة الصحافيين الأمريكيين الذين كانوا يرافقونها في رحلاتها للشرق الأوسط من جرأتها وصراحتها. وقد حاولت كلينتون على مدار صفحات مذكراتها أن تنأى بنفسها وبحكومتها عن التاريخ الأسود للاستبداد فتشير إلى استخدام قانون الطواريء بنوع من الأسى، كما تنعى على دول المنطقة رزوحها تحت كافة أنواع الفساد، كما تتحدث عن غياب التعددية، وضعف المشاركة السياسية، وعدم السماح بتكوين الأحزاب، والتضييق على المجتمع المدني، وتسييس القضاء، وبعده عن الاستقلال والنزاهة، وتزوير الانتخابات أو عدم إجرائها بالكلية، والتنكيل بالمعارضين، كأمثلة على بعض ما كانت تأخذه على أنظمة المنطقة. وأخيرا فإنها تنعى على زعماء المنطقة استمرارهم في الحكم على الرغم من كل هذه المآسي. ورغبة منها في أن تبدو كصاحبة موقف متوازن فإنها تتوجه أيضا بقدر من اللوم للإدارات الأمريكية المتعاقبة التي رغم حسن نواياها تجاه المنطقة (كما تزعم)، فإنها مدفوعة بالاعتبارات الاستراتيجية، مثل مكافحة الإرهاب، ودعم إسرائيل، ومواجهة الطموحات الإيرانية النووية، لم تمارس ضغوطا كافية على حلفائها من أجل ممارسة إصلاحات سياسية، ظنا منها أن هذا يخدم أغراضها في حماية الاستقرار، كما تعترف أن الإدارات الأمريكية قد استمرت في التنسيق مع هذه الأنظمة لمواجهة المخاطر الأمنية ولم تفكر مطلقا في قطع العلاقات العسكرية معها، على الرغم من سوء أدائها في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات.تعترف كلينتون أن هذا التناقض مثل معضلة أمام أجيال متتابعة من صانعي القرار الأمريكيين؛ التناقض بين القيم الديموقراطية والمصالح الاستراتيجية. وأنه على الرغم من وقوف المسؤولين الأمريكيين في الجانب الصحيح في الكثير من الأوقات إلا أنهم يندمون كذلك على الكثير من المواقف التي لم يتخذوها، والتداعيات التي لم يتوقعوها، والبدائل التي لم يختاروها. وكانت أبرز المناسبات التي ظهر فيها مثل هذا التناقض "اندلاع ثورات الربيع العربي"، حينما وقفت وزيرة الخارجية والإدارة الأمريكية في مجملها إزاء قرارات صعبة، كانت تستدعي اتخاذ مواقف محددة، إلا أن هذا بالضبط ما لم يحدث على أرض الواقع. فبشكل عام ظهر من خلال مذكرات هيلاري عدم امتلاكها لموقف محدد من الثورات، التي مثل نشوبها أزمة حقيقة لها كما للإدارة الديموقراطية بشكل عام. فخلال هذه الفترة تبين أن المرشحة الحالية للرئاسة ووزيرة الخارجية وقتها ليست الشخص المناسب لاتخاذ "القرارات الصعبة"، فقد بدت مترددة وغير متيقنة. فمع تصاعد المظاهرات التي انطلقت في تونس، لم تستطع كلينتون أن تتخذ موقفا حاسما إزاء نظام بن على الذي وصفته بطريقة توحي أنه كان من الممكن التغاضي عن عيوبه، بالنظر إلى انفتاحه على القيم الغربية، وحجم الحريات التي كان يمنحها للمرأة التونسية. قبل أن تعود وتؤكد أن قمع نظامه وقسوته دفعا بالمواطنين في النهاية إلى النزول إلى الشوارع رفضا للفقر والإحباط الذي عانوا منه في ظل حكمه.نفس الأمر فيما يتعلق باليمن إذ تعترف كلينتون بأن الإدارة الأمريكية كانت تقايض نظام عبد الله صالح في إطار نفس العلاقة البراجماتية؛ التغاضي عن الاستبداد والاستمرار في الدعم بالمال والسلاح، في مقابل قيام الأخير بلعب دور الوكيل عن الجانب الأمريكي في التصدي للجماعات التابعة لتنظيم القاعدة في اليمن.هذا التردد والازدواجية في المواقف وتغليب المصالح البراجماتية على المقولات المبدئية مثَّل مرة أخرى موقف الوزيرة الأمريكية عندما اندلعت الثورة المصرية، ففي وصفها للرئيس السابق، اهتمت بأن تؤكد كيف أن مبارك مثل حليفا استراتيجياً للإدارة الأمريكية، وكيف أنه أظهر قدرة متميزة في مقاومة الإسلاميين، كما حمدت له الضغوط التي مارسها على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من أجل القبول باتفاقية السلام التي كانت برعاية زوجها بيل كلينتون في العام 2000. قبل أن تبرر الثورة عليه بالطبيعة الاستبدادية لنظامه وسوء إدارته للوضع الاقتصادي.هذه الازدواجية في مواقفها أعاقت قدرتها على الرد على أسئلة الإعلام بشكل محدد وحاسم حول موقف الإدارة الأمريكية مما يجري في مصر، فقد كان من الصعب أن تقدم إجابة تحمل (ما يفترض أنه) المباديء الأمريكية حول الحرية والديموقراطية، وتحفظ لأمريكا في نفس الوقت مصالحها في المنطقة، ولهذا كانت إجاباتها تأتي مائعة، وغير محددة، من نوعية "دعم حق المتظاهرين في التعبير عن الرأي، ودعم حرية التجمع، ورفض استخدام العنف"، ثم التعقيب على كل ذلك بالقول بأن تقديرها "أن الحكومة المصرية مستقرة وتبحث عن طرق للاستجابة للمطالب المشروعة للجماهير".إن الخيار الصعب الذي أثاره الربيع العربي أمام هيلاري كلينتون، وقت أن كانت أحد صانعي القرار، يتعلق بمدى قدرتها على إدارة التعدد، فالتعامل مع حليف واحد قوي مثل دوما بديلاً أفضل من التعامل مع جماهير غفيرة تمارس حريتها لأول مرة. لذا تحركت وزيرة الخارجية ببطء، وترددت في التجاوب مع حركة الشارع، وكان رأيها أن التزام الإدارة الأمريكية بموقف محدد ربما ينعكس بالسلب على مصالحها، لذا آثرت أن تتعامل مع جميع الاحتمالات، وهو ما تأكد بدرجة أكبر في أعقاب نجاح الموجة الارتدادية، ورجوع ممثلين للأنظمة التي قامت ضدها الثورات إلى الحكم، وقبول الإدارة الأمريكية، ووزيرة الخارجية نفسها، التعامل معهم بأريحية لافتة. وبناءً على ما سبق يمكن القول إن فوز هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة سيوفر أجواء مثالية أمام أنظمة الوضع الراهن، أو على الأقل لن يمثل عاملا محفزا لاستئناف ثورات الربيع العربي المجهَضة.