03 أكتوبر 2025
تسجيلفي التاريخ الإسلامي تطورت تقاليد عريقة في طرائق تناول علماء الدين للقضايا والشؤون المُستجدة التي تواجه مجتمعاتهم. تتناول هذه السطور اثنين من تلك التقاليد التي تم القضاء عليها في حقبة التدين المظهري والتلفزيوني التي نشهدها في الوقت الراهن. التقليد الأول هو دراسة الشأن المطروح على الفتوى بأكبر قدر من التأني والحذر والدقة في إصدار الرأي فيه. وهنا نعرف كيف أن العلماء الحقيقيين كانوا ينظرون في الأمر المعروض عليهم ويقيسونه زمنا ومكانا وظرفا وشخصا. ويتأملون في انعكاساته وتأثيراته ثم يصدرون رأيهم. ما يصدر من فتوى في شأن من الشؤون يطلبها شخص ما في مكان ما في زمان ما في ظل ظروف محددة قد تختلف تماما حول ذات الشأن إن طلبها شخص آخر. أو في مكان آخر. أو في زمان آخر. أو في ظل ظروف مختلفة. ومُسجل في أدبيات الفتيان الشافعي كان قد أفتى في العراق بشكل مختلف عن ما أفتاه في الشام وحول ذات الشؤون. لأن السياق والظرف يختلفان.مقابل ذلك التأني والحذر وموضوعه الفتوى في سياق الزمان والمكان والظرف والسائل ماذا نرى هذه الأيام؟ الذي نراه جحافل من أرباع العلماء يحتلون شاشات القنوات الدينية جاهزين "على الهواء" لإطلاق أي فتوى حول أي شأن كان. وفي أي مكان وزمان. كيف يتأتي لحضرة "المفتي التلفزيوني" هذا العلم الديني اللامحدود والذي يؤهله للرد الفوري والمباشر على أي سؤال من أي شخص ويكون ضميره الديني مرتاحاً؟ كان يُؤتي للعالم الحقيقي بالقضية في إطار التقاليد العريقة للفتوى فيطلب الوقت لينظر فيها ويعيد السائل من حيث أتى. فيعكف على المسألة لدراستها وتقليب وجوهها. مفتيو اليوم لا يحتاجون "للنظر في المسألة" فعبقرية علمهم الديني تؤهلهم لإطلاق الرأي يمينا وشمالاً وعلى الفور حول أكثر القضايا تعقيداً. مشاهدة أي برنامج من برامج "فتاوى على الهواء" تثير الغثيان بسبب جراءة المفتين التلفزيونيين الذي داسوا تحت أقدامهم كل ما له علاقة بتقاليد الفتوى التاريخية من الدراسة والتأني والحذر. تأتي أسئلة لا تستثني شيئا من السؤال عما إن كانت "العولمة حراما أم حلالا". أو "امتلاك السلاح النووي حرام أم حلال". إلى "حل أو حرمة مرافقة الابن الوسيم لأمه المنقبة في الشارع" (لأن رؤية الناس لوسامته سوف تشير ضمناً إلى جمال أمه!). إلى "حل أو حرمة تويتر وفيسبوك". إلى "حل أو حرمة شراء تذاكر اليوم الواحد في قطارات المترو في أوروبا. وصولا إلى الحكم بإسلام أو كفر طوائف وجماعات بأكملها. وإلى كل شيء عملياً! ومع ذلك لا يرمش طرف للمفتين التلفزيونيين ونراهم وبكل ثقة تلفزيونية استعراضية يطلقون فتاواهم من على "شاشات مصانع الفتوى" ومن دون أي تردد. "الفتاوى التلفزيونية" كارثة حقيقية تواجه مجتمعاتنا اليوم. لأنها خليط من تنافس الاستهلاك الديني بين القنوات الفضائية ورأس المال الباحث عن دعايات أكثر في حال تحقيق نسبة مشاهدة أعلى لبرنامج هذا المفتي أو ذاك. يتسلل إلى وعي المفتي التلفزيوني الهوس التنافسي لتحقيق الظفر والتفوق على غيره من المفتين على الشاشات الأخرى عن طريق التشاوف بامتلاك علم أوسع وقدرة أكبر على الفتوى إزاء كل شيء. أصبحت "مصانع الفتوى" جزء لا يتجزأ من رأسملة الدين وتحويله إلى وسيلة للربح التلفزيوني السريع.والتقليد التاريخي الثاني الذي تم طحنه في ماكينات الاستهلاك الديني التلفزيوني هو قول "لا أدري" إن أُشكلت القضية على العالم وحار إزاءها جوابا. مثّل هذا التقليد سمة رفيعة عند علماء الدين الحقيقيين الذين كانوا ورغم علمهم العميق يتواضعون أمام هذا الشأن الخلافي أو المُبهم أو ذاك ولا يصدرون فتوى بشأنه. كان ذات العالم الذي يطلب وقتا لينظر في قضية معقدة لا يتوانى في الاعتراف بعدم قدرته على إعطاء رأي جازم فيها ويقول "لا ادري". اين هو هذا التقليد العظيم الذي يعكس التواضع والقدرة في ذات الوقت عن كثير من مفتي هذه الأيام وعلمائه الذين صار اشتغالهم بالفتوى والدين اقرب إلى "التشبيح" منه إلى أي شيء آخر.لا يدرك "شبيحة المفتين" اليوم أن قاعدة "لا أدري" هي عمليا من حفظ التعايش التاريخي وعلى مدار قرون طويلة في المنطقة والعالم الإسلامي عموماً. ولأنها مرتبطة عضوياً بمنهج متأسس على "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". المعنى العملي والتطبيقي لتوجيه النص القرآني هذا هو أن كثيرا من أمور الحياة والشؤون المُستجدة تقع في مناطق رمادية وبعيدا عن ان تُحسم بالفتوى وبـ "الحلال والحرام". ومن الأفضل أن تبقى هناك وكذلك. وهذه المناطق الرمادية كلما بقيت على اتساعها كلما انتعشت المجتمعات وازدهرت. ويشهد التاريخ الإسلامي على ذلك في مراحل تقدم المسلمين وعلوهم. في المناطق الرمادية تشتغل العلوم وتتقدم الثقافة ويتم هضم كل ما هو مُستجد وتطويعه عبر عبقريات الاجتماع الإنساني لخدمة الناس من دون إعاقات. وفي المناطق الرمادية تعيش جماعات المجتمع المختلفة بأنماط تدينها المُتباينة وسلوكياتها المختلفة. وهو أيضا ما شهدت به المراحل التاريخية المختلفة. في المقابل عندما تتآكل المناطق الرمادية ويصبح هوس الأفراد ورجال الدين (الشبيحة) مُكرس على الخروج على منهج "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". ويتحول كل الجهد المصطنع لاختلاق قضايا من لا شيء ندخل في زمن انحطاط وتقهقر. تبدأ ماكينة الفتوى والتحريم بالقضم التدريجي والمتواصل من المناطق الرمادية وتحاصرها في غياب كلي لقاعدة "لا أدري" والتي هي القاعدة الطبيعية لعدد هائل من المسائل الطارئة والمعقدة والمُبهمة. ولكن رغم تعقيدها وإبهامها إلا أن ذلك لا يدفع مفتي الاستعراض التلفزيوني من مواجهتها وإصدار الفتوى (التحريمية) بشأنها. نحن الآن نعيش هذه الحالة المريعة من محاصرة المربع الرمادي الوسطي للاجتماع العربي والإسلامي من قبل بلدوزرات الفتوى التحريمية التي تهدم أرضيات ذلك المربع الذي إن انتهى انتهينا معه.