12 سبتمبر 2025
تسجيلعلى العكس من ذلك تماماً. يخسرونَ احترامهم. يرمون مصداقيتهم وراء ظهورهم. ويُضيّعونَ مشروعية وجودهم واستمرارهم في نظر شعوبهم قبل نظر العالم. تظلُّ هذه الحقائق تفرضُ نفسها مهما جمّلَ لهم الآخرون انقسامهم، ووجدوا له الأعذار والتبريرات (المنطقية). ومهما تمّ إغراءُ طرفٍ من هنا بمكاسب آنية، وطرفٍ من هناك بجوائز ترضية تكتيكية، لا تُقدّم ولا تُؤخر في حلبة السياسة الدولية.. رغم هذا، لاينتظر المرء من جميع أطراف النظام السياسي العربي إدراك الحقائق المذكورة، فضلاً عن صناعة القرار بناءً على مُقتضاها، ولأسباب عديدة قد لا تكون ثمة حاجةٌ للتفصيل فيها. من هنا، يكفي وجود من يدرك تلك الحقائق، لكنه يكون أيضاً قادراً بقوته الإستراتيجية على (إقناع) الآخرين بالحاجة إلى المصالحة. وبأن العمل من داخل الإجماع العربي الرسمي يمكن أن يحقق (المصالح). خاصةً حين يكون في ذلك الإجماع الرسمي حدٌ أدنى من الانسجام مع الموقف الشعبي العربي. هكذا يتم بناء المشروعية السياسية. ومع بناء المشروعية تظهر المصداقية ويعود الاحترام. في عالمٍ لا يفهم إلا عندما تُخاطبهُ بتلك اللغة. وقد يكون من عجائب المفارقات أن يكمن وجه الاختلاف في اللغة العربية بين كلمتي (المصالحة) و(المصالح) في حرفٍ واحد! لكن مصدر التحدي الأكبر في وجه المصالحة وصانعيها سيتمثل دائماً في المنتفعين من (صناعة النزاعات). في أحد الأفلام الخيالية التي تدور أحداثها خلال العقد الثامن من القرن الفائت، يقوم بعض الأبطال الخارقين بأعمال تؤدي إلى استتباب السلام والمصالحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بشكلٍ كامل. وكنتيجةٍ لتلك المصالحة، يسود الأمن والوئام بين شعوب العالم وتختفي الحروب والنزاعات. فنرى مدير تحرير إحدى الصحف الأمريكية يصرخ في وجه كبير المحررين قائلاً: «ماهذا الذي يجري؟! لم يعد لدينا أخبار .. كل ما نراه هو شعوب العالم المختلفة وكلٌ منها يضع يده في يدِ الآخر. يبتسمون ويساعدون بعضهم إلى درجةٍ مملة. هذه ليست أخباراً. ابحث لي عن أخبار كالمعتاد بأي ثمن»!.. هذه صورةٌ معبرةٌ لشريحةٍ من بني البشر تعيش على وجود الصراع في هذه الأرض، وتقتاتُ من استمرار النزاعات البشرية. هذا نموذجٌ إنسانيٌ لا يستطيع أن يكون له دورٌ في هذه الحياة بمعزلٍ عن (صناعةٍ) كبرى ومعقّدة ومتعددة الأطراف لا يسمع بها الكثيرون، اخترعَها الطمع البشري، اسمها (صناعة النزاعات). كثيرون هم المنتفعون من تلك الصناعة على مستوى الدول والمنظمات والأفراد. والرأي العام العربي يعرف غالبية هؤلاء. لكن الحقيقة، كما يوحي المشهد السينمائي المذكور، أن بعض أهل الإعلام باتوا جزءاً لا يتجزأ من تلك الصناعة. لا يسري هذا على الواقع العربي فقط طبعاً، وإنما توجد ملامحه في كل مكان من العالم. فاشتعالُ النزاعات يعني اشتعال المنافسة بين المصالح. وكلما كانت النزاعات كبيرةً وشاملة كانت المصالحُ أكبر. وكلما كبُرت المصالح ارتفع حجم المكافآت والعوائد التي يجنيها مَن يخدمون تلك المصالح. وبما أننا نعيش في عالمٍ أصبح الإعلام فيه يُعتبر السلاح الأول في معاركه السياسية والثقافية، فإن هناك إغراءً شديداً لأهل الإعلام للاستفادة من هذا الوضع، ولتحقيق مكاسب لا يمكن تحقيق جزءٍ منها في أوقات الاستقرار والسلام. لا يمكن أن تفوتك معرفة أفراد هذه الشريحة. لأن عجزهم الحِرَفي الفاضح في زمن السلم يكشف حقيقة إمكاناتهم الإعلامية. لا يعني هذا أنهم فاشلون في استخدام اللغة أو أنهم يفتقرون للذكاء. بل ربما كان الأمر على العكس من ذلك. لكن بؤس البشرية معهم يتمثل في أن قدراتهم المذكورة لا تظهر إلا في وقت صناعة الأزمات. ويبدو الحديثُ معهم عن مهمةٍ نبيلة للإعلام تتمثل في رفع ذائقة الناس ووعيهم، وفي تأكيد معنى التعارف بينهم، يبدو بمثابة (الكليشيه) التي تثير الملل. وحين ترى مَن يختفي ويتوارى منهم في زمن السلم والاستقرار، ثم يظهر في وقت الأزمات والنزاعات ليصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولتصعد أسهمه إلى السماء بعد أن كانت في الحضيض، وليُصبح في صَدرِ الصفحات بعد أن كان ضائعاً في زاويةٍ هامشية من صفحاتها أو أبوابها الداخلية، فاعلم أنه واحدٌ من أولئك. وإذا كان لكل الحروب أثرياؤها الذين تزيد أرصدتهم وتتضاعف من دماء الشعوب، فهؤلاء يُشكّلون شريحةً منهم دون شك. لا يعلم أغلب الناس في العالم، ولا يعلم القراء والمشاهدون والمستمعون العرب على وجه التحديد مدى سهولة الانضمام إلى صناعة النزاعات بالنسبة لإعلامي ينحاز لذلك الخيار .. ولا يدركون حجم المكاسب المادية والمعنوية التي تنتج عن مثل هذه الممارسة .. فهناك ألف طريقة وطريقة لصبّ الزيت على النار في هذا المجال، يمكن للمراقب أن يرصدها في عشرات المقالات والتحليلات وزوايا الرأي التي تُحرّف الحقائق، وتتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، وتُخفي ما يجب أن يعرفه الناس، وتُركّب صوراً ذهنيةً لا أصل لها، وتستعمل خلط الحقائق والأوراق، وتستخدم اللغة لاستخلاص نتائج خاطئة من مقدمات صحيحة، وتقول جزءاً من الحقيقة لتوظيفها في تركيب كذبةٍ كبيرة، وتؤكد على لغة التهويل والتخويف وإثارة الذعر، وتلجأ لأسلوب التحريض السافر حيناً والمستتر حيناً آخر. إلا أن (أجمل) مافي هذه (التركيبة) يتمثل في تصريحاتٍ لا أصل لها تُنسب إلى (مصادر مسؤولة)، وتحليلات (موثوقة) مستقاة من (أجهزةٍ) مُطّلعة .. خاصةً حين تُصبح هذه الدعاوى لازمةً تترددُ مثل الموشح في كل تحليلٍ ومقال. إضافةً إلى غير هذا من التكتيكات التي يتقنها أهل (الصنعة). الأدهى والأمرّ أن ترى هؤلاء مصرّين على تلبّس الدور المذكور حتى في أجواء المصالحات. وكأن غِيرَتَهم على شعوبهم وحكامهم أكبر من غيرة الشعوب والحكام. بل إن تأكيدهم على ممارستهم المذكورة يوحي وكأنهم يقولون بلسان الحال قبل لسان المقال إن رؤية تلك الشعوب المتعطشة للمصالحة، وهؤلاء الحكام الذين يسعون لبناء المصالحات، لا ترقى إلى رؤيتهم الثاقبة، ولا تمتلك حنكتهم السياسية، وأنهم يرون ما لا يراه الآخرون.. لا يمكن للمصالحة العربية أن تكتمل في يوم من الأيام دون أن يجد العرب -حكاماً ومحكومين- طريقةً للتعامل مع تجار صناعة الأزمات. لكن ما يبعث الأمل في الموضوع أن هؤلاء يفهمون بالإشارة.. وإذا ما صدرت تلك الإشارة فإنهم سرعان ما يضبطون إيقاعهم وفق اللحن الجديد.