10 سبتمبر 2025

تسجيل

مُتعة الطريق

20 أبريل 2023

عجيبةٌ هي الحياة، تغمرنا بسخائها، لنغرف من باطن ينابيعها، فنشتم رحيقها ونلعق من صافي عسلها، تنفتح شهيتنا مطالبين بالمزيد، بعد أن باتت نعمها ثوابت واقعية، ومنحها هِبات ربانية لن تنقطع، مما ساهم في إثارة مطامعنا، وارتفاع سقف رغباتنا اللامحدودة، التي تجبرنا على التدافع خلف ملذات الحياة وزينتها لاهثين، لنخوض مع الخائضين، نتورط في معاركها الهامشية، وننساق لتفاهاتها مُدققين بصغائر أمورها، تسرقنا أيامها ولياليها الحالكة، لنتوه في دوامة الأهداف، ونضيع في بوتقة الاحتمالات، باحثين عن مخارج آمنة وأمنيات مُحققة. وما نكاد نقطع الطريق ويُخيل إلينا أننا وصلنا لمُبتغانا، حتى تلوح بالأفق سبلٌ جديدة، فنعدّ العدة مرحبين فاتحين لها ذراعينا مشمرين سواعدنا، مُفعمين بالنشاط والعزيمة والإصرار، نتطلع للقمم التي لا نقبل سواها، بهدف تعزيز مكانتنا وتحقيق ذاتنا، مرددين ما يتناسب وينسجم مع توجهاتنا من مصطلحات وعبارات وحكم، لتعزيز وتأصيل المعتقد الذي نتبناه، كالمثابرة والهمة العالية والطموح المطلق وتوثيقها بأن العمل عبادة، وبأن الفرص لن تتكرر، فضياع أحد المطالب قد يكلفنا كثيراً في زمن متطلباته الحياتية لا تتوقف، ورغباته تنمو باستمرار وتتضخم، علاوة على أن الحياة لا ترحم، والبقاء للأقوى. وهكذا ندور كحبة قمح في طاحونة الحياة، لتأخذنا في رحلاتها التي لا تَكفُّ عن الدوران وهي تطحن عواطفنا وتسحق مشاعرنا، لتموت المُتعة بعد أن غفلنا عن لذة الطريق لوصول الوجهة وبلوغ الغايات. عندما نتأمل هذا المنطق المُعاكس الذي أفقد حياتنا الثمرة الطيبة، نجد أن أكثر ما لهثنا خلفه لا يستحق، وأغلب من ضحينا من أجلهم اختفوا (ما لم يتحولوا لخناجر بظهورنا)، وما ظننا أنه مصدر سعادة جلب لنا التعاسة والشقاء، في حين أن الكثير من المتع التي رمتها السماء إلينا تلاشت كفقاعات الصابون لأننا أدرنا لها ظهورنا بتكريس جُل اهتمامنا لمعرفة متى سنصل وكيف ولماذا، ندور في حلقات مُفرغة دون أن ندرك أن الطريق لبلوغ القمة أجمل من القمة ذاتها، وأن ما كنا نبحث عنه موجود بداخلنا ولكننا لم نتمكن من رؤيته أو الاستدلال عليه. فمن المؤسف أن هناك من لا يجيدون فن العيش وإن كان يُطلق عليهم أحياء ويمارسون طقوسهم كالجميع، إلا أنهم فقدوا أرواحهم في هذه الرحلة، فلم يتوقفوا للحظة ليتفقدوا فطرتهم ويمتَنوا للنعم المحيطة بهم، كما أنهم لم يتفكروا بمصيرهم بعد انقضاء كل هذه الزوابع، لانشغالهم بمراقبة وفهم الآخرين وتوجيه النقد لهم، بالإضافة لحالة الترقب واليقظة التي يتبنونها للدفاع ومزاحمة كل من تسول له نفسه انتزاع اللقمة من أفواههم، ولا يعنيني هنا من تؤول إليه، بل من سيستمتع بهذه اللقمة أكثر ويستشعر جمالها ويتلذذ بمذاقها، لأنها لن تذهب إلا لمن يستحقها. ولست أحثك على التكاسل بالقيام بواجباتك والتنازل عن حقوقك، أو تخفيض معدل استحقاقك والتوقف عن التخطيط والسعي لمستقبلك، بل بالعكس فأنا أدعوك لها. لكن.. وأنت تفعل كل ذلك لا تغفل عن تحسس النعم لتدوم، طمئن قلبك ليرتاح، تصافى مع ذاتك لتسعد، تقبل الآخرين بمفارقاتهم لتندمج، أحسن نواياك لتُرزق بها، كُن واضحاً لتسلم، وصادقاً لتُحترم، كُف عن التذمر والانتقاد لما يفعله الآخرون والأسف على ما ليس لديك، انشغل بذاتك، ولا تكن لحوحاً فما هو لك سيبقى وما ذهب إنما هو لغيرك، املأ قلبك بالرضا، وتمنَّ الخير للآخرين وإن كانوا أضدادك، فلا تفقد أجمل أوقاتك في التوتر والخوف من الغد الذي لم ترَه وغير مضمون، أو الماضي الذي لم يكن لك به يد ولا يمكن تغييره. تعلم كيف تستغل اللحظات التي بين يديك الآن، استمتع بكل تفاصيلها لتكون في المستقبل ذكرى جميلة تفخر بتجاوزها وتبتسم لذكراها، وليست مجرد ذكرى تُقدر قيمتها، فلا تُبقِ المواقف والأحداث المؤلمة حية في ذهنك، بل أعد انتباهك باستمرار إلى اللحظة الحالية الأصيلة الخالدة بدلاً من الانغماس بصناعة الأفلام العقلية التي تنقلك بين الماضي والمستقبل وتفقدك الحاضر الذي تعيشه الآن بلحظاته التفصيلية ويمكنك التحكم بها، كما يمكنك اختيار الاستمتاع بها أو تجاهلها وإهدارها. فهذا قرارك، هل تُفضل أن تخسر المتعة وتقود طريقك الوعر لتحتفل بنجاح الوصول عند خط النهاية، أم توفر عليك الكثير من العناء ببناء جسور عبور تتخطى بها تلك الصخور التي تعترض طريقك لتُيسر وصولك، وتتلذذ بالرحلة.