13 سبتمبر 2025
تسجيلبعد سقوط السلطان عبد الحميد عن السلطة عام 1908، حكمت جمعية الاتحاد والترقي البلاد فعليًا حتى نهايتها. وكان السلطان عبد الحميد يهتم بتوازن القوى على المستويين الإقليمي والدولي. لكن حزب الاتحاد والترقي أضعف هذه السياسة بإهماله البعد الإسلامي، وأغضب الغرب في نفس الوقت بميله نحو ألمانيا. فقدت الإمبراطورية العثمانية معظم أراضيها في حروب البلقان خلال الفترة 1912- 1913 حيث كانت الإمبراطورية الروسية الراعي الرئيس لحروب البلقان بسياساتها السلافية. وكانت أوروبا الغربية، وخاصة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، التي كانت تسيطر على جزء كبير من العالم الإسلامي، حريصة على تدمير الاتحاد العثماني إلى الأبد بعد حروب البلقان التي أضعفته بشكل خطير. ولتقسم الأراضي العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا اجتمع ممثلو تلك الدول عدة مرات قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى. وآخر اتفاقية تم توقيعها بين بريطانيا وفرنسا فيما يعرف باتفاقية سايكس بيكو. وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى في يوليو 1914، هاجموا الأراضي العثمانية أيضًا. دخلت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في أكتوبر 1914 على أمل استعادة أراضيها المفقودة في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط. ومع انتشار الحرب إلى عدة جبهات، استهدفت قوات الحلفاء إسطنبول، قلب الدولة العثمانية أو الخلافة، عن طريق البحر عبر مضيق الدردنيل. كانت هذه إحدى المراحل الرئيسة للحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة حوالي 20 مليون شخص وعدد أكبر من الجرحى. وبهذا الهجوم، أراد الغرب أيضًا إرسال مساعدات إلى روسيا التي كانت تحت الضغط الألماني. ولذلك أمر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل بالهجوم في فبراير 1915 (كان حينها يشغل منصب أمير البحرية البريطانية). فشل التوغل الأول للقوات البحرية البريطانية والفرنسية لاختراق خط الدفاع الساحلي للقوات العثمانية في مارس وأبريل 1915 بسبب تماسك وشجاعة التحصينات العثمانية على ضفتي المضيق. ثم أنزلوا جنودهم في خمسة مواقع مختلفة في شبه جزيرة جاليبولي. حدث آنذاك قتال شرس بين الطرفين، وأبدى الجنود العثمانيون بطولة فائقة ومقاومة باسلة لصد الغزاة، وكان المقاتلون العثمانيون في تلك المعركة التاريخية ينتمون إلى كافة الأمم، أتراك وعرب وأكراد ومهاجري الخلافة الإسلامية من البلقان والقوقاز. على سبيل المثال، قاتل 30 ألف سوري في الجيش العثماني واستشهد منهم 600 في تلك المعركة. ومن ناحية أخرى، جلب المعتدون مقاتلين من الغرب والشرق، منهم الكنديون والهندوس والأستراليون والأفارقة. كما جلبت قوات الحلفاء رعايا مسلمين تحت شعار مساعدة الخلافة العثمانية. وعندما أدرك المقاتلون المسلمون من الهند وإفريقيا الحقيقة، رفضوا إطلاق النار على المقاتلين العثمانيين أو انشقوا إلى جانبهم. كانت معركة الدردنيل مكلفة للغاية لكلا الجانبين، حيث قُتل نصف مليون شخص بالتساوي تقريبًا من كل جانب. وكانت أول حرب كبرى شهدت استخدامًا واسع النطاق للبنادق الآلية والطائرات. في النهاية، اضطرت القوى الغربية إلى الانسحاب من جاليبولي بخسائر كبيرة. وبالتزامن مع معارك جاليبولي، كانت القوات البريطانية تحاول آنذاك السيطرة على الخليج العربي عن طريق غزو العراق. أوقفهم الجيش العثماني المدعوم بمقاتلي العشائر العربية في معركة الكوت والعمارة، حيث أخذوا 15 ألف جندي من الجنود البريطانيين أسرى حرب. بعد نكسة الدردنيل، حولت القوى الغربية تركيزها إلى الأراضي العربية. بمعنى آخر، بعد فشلهم في القبض على الرأس، ركزوا على تدمير أجزاء مختلفة من الإمبراطورية العثمانية واحدًا تلو الآخر. يمكن اعتبار معركة الدردنيل أيضًا بمثابة انتصار على آخر الحملات الصليبية التي استهدفت بلاد المسلمين. الشاعر الراحل محمد عاكف أرصوي، مؤلف النشيد الوطني التركي الحالي، وصف الحرب العالمية الأولى بأنها «الحملة الصليبية الأخيرة». على الرغم من أن الحرب انتهت بهزيمة قوى المحور بعد عامين من معركة جاليبولي، إلا أن انتصار الدردنيل كان له تأثير مهم على مسارات الحرب العالمية الأولى. ولم تتمكن قوى الحلفاء من تحقيق هدفها المتمثل في غزو إسطنبول. ولو سقطت إسطنبول، لربما انتهت الحرب بالسيطرة السريعة على الأراضي العثمانية المتبقية في الشرق الأوسط. أدى انتصار الدردنيل إلى تحسين حافز الدولة العثمانية وحلفائها للقتال لمدة عامين آخرين. والأهم من ذلك أن القوى المتحالفة فشلت في مساعدة روسيا وإنقاذها من الانهيار الذي أدى بدوره إلى الثورة البلشفية في روسيا. وانسحبت روسيا لاحقا من التحالف مع الغرب. وبعد الهزيمة النكراء للبحرية البريطانية في تلك المعركة، حدث تغير في طبيعة نظام الحكم في إنجلترا، ولو جزئياً. لقد ألهم انتصار جاليبولي «المنسي» المقاومة في الأناضول التي أدت إلى ظهور تركيا الجديدة، وقد ظلت قصص البطولات في تلك المعركة تلهم الشعب التركي، وألهمت المقاومة ضد الاستعمار في وقت لاحق.