16 أكتوبر 2025
تسجيلمعرفة الذات وقدراتها وإمكاناتها ضرورة لا غنى عنها قبل البداية في أي عمل، ولهذا فإن المتأمل في الاقتصاد القطري يجد أننا أمام حقيقة أولية مهمة، تتمثل في تحول اقتصادنا القائم على الصيد والحرف التقليدية إلى اقتصاد نفطي يمد العالم بالنفط والغاز... هذه الحقيقة تقودنا إلى نتيجة مهمة خلاصتها أن قطر باتت جزءا أصيلا من الاقتصاد العالمي، ليس فقط على مستوى إمداداتها النفطية التي تشكل شريان حياة للصناعة العالمية، وإنما لشراكاتها الاستثمارية مع كبرى الشركات العابرة للقارات. وما دامت قطر جزءا من الاقتصاد العالمي، فعليها أن تنظر إلى مواردها وكيفية توظيفها واستثمارها، وعند النظر في هذه المسألة فإننا سنجد قطر نموذجا متفردا بين دول العالم، فعدد سكانها قليل ومواردها وتدفقاتها المالية كبيرة جدا لا يمكن أن يستوعبها السوق المحلي.. وهذا النموذج عكس دول العالم التي تعاني من كثرة عدد السكان مع قلة في الموارد.. فاستثمار قطر المحلي ينبغي أن يراعي هذه المسألة ليقيم مشاريع فائدتها النقدية عالية مع حاجتها لعمالة أقل وموارد بشرية محدودة.. وهذا الحل وحده لا يكفي؛ لكي يحافظ الاقتصاد على وتيرة النمو المرضية. هذه الحقائق التي نحاول من خلالها تعرف طبيعة اقتصادنا بدأت تتضح أكثر بعد الحصار الجائر على دولة قطر منذ الخامس من يونية 2017 ذلك الحصار الذي كان مفيدا من ناحيتين: الأولى: الاعتماد على النفس في إنتاج المواد الأساسية والتقليل من الاستيراد قدر المستطاع وهذا أدى إلى زيادة في عدد المشاريع التي كادت أن تموت قبل الحصار؛ بسبب إغراق السوق بالسلع الأقل تكلفة من الخارج... لكن الصناعة الوطنية بدأ الاعتماد عليها، فكثر الإنتاج وقلت التكلفة؛ بسبب وجود سوق محلي يستوعب هذه الصناعات الصغيرة والمتوسطة.. لكنه لن يستوعب المشاريع الكبرى ومن ثم كانت الحاجة للاستثمارات الخارجية. إن العلاقات الاقتصادية للدولة واستثماراتها الخارجية شكلت قوة ناعمة عصمت البلاد من حرب عسكرية وكانت درعا أمام هجوم شرس على اقتصادنا الوطني، وهو أمر وعته قيادة الدولة منذ وقت مبكر من الحصار، حيث بدأت استراتيجية بناء التحالفات والشراكات مع الدول والمؤسسات والكيانات المؤثرة اقتصاديا، هذه التوجه قاده صاحب السمو أمير البلاد المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله، حيث كانت جولاته الدبلوماسية للتوسع والتنوع في الاستثمار الخارجي. وما تفعله قطر من استثمار في الخارج ضرورة، وعلينا أن نخرج من الإقليمية إلى العالمية، مستفيدين بثرواتنا وبخبراتنا التخصصية في شركات الطاقة مثل نبراس وشركة قطر للبترول، وغيرهما.. والاستثمار في هذه الشركات يعزز من قوة الصندوق السيادي للدولة، كما أن هذه الشركات كثيفة الإنتاج ستجد سوقا خارجيا يستوعبها، وهذا يمكنها من تقليل تكلفة الإنتاج بالتفاوض على أفضل العروض بأكثر الأسعار مناسبة، كما أن هذا التوسع والتنوع يعطي هذه الشركات نفوذا في مجالس إداراتها، فقطر الآن شريك أساسي وكبير في الشركات العالمية الكبرى ولها قرار في هذه الشركات؛ بسبب الحصص الضخمة التي تملكها، وهذا يؤدي إلى أن هذه الشركات تتناغم بشكل كبير مع سياسة الدولة وفق رؤيتها الوطنية عشرين ثلاثين. لقد زادت أهمية الاستثمار في الخارج بعد فوز قطر بمونديال العرب 2022؛ حيث بدأت الشركات المحلية تحتك بالشركات العالمية، وهذا أدى إلى تراكم خبرات في وقت قياسي، فالاستثمار الخارجي أيضا يجعل الاقتصاد فتيا متحركا غير راكد يطور نفسه باستمرار مع تغير الظروف من حوله. إننا في قطر نمد العالم بالطاقة وهي المحور الأول الأساسي في أي نهضة، والدول التي نستثمر فيها تمدنا بالتدفقات النقدية والاستثمارات كما تمكننا من تحقيق التجانس في قطاعاتنا وفق إستراتيجيتنا الوطنية، ونحن إزاء هذه الحقيقة التي مهدنا لها بالأدلة مطالبون باقتصاد حر وسوق حر له ضوابط تجذب المستثمرين، ضوابط تتعلق بالشفافية والنزاهة والتشريعات التي تزيد من ثقة المستثمر، وهذا ما حدث بالفعل في قطر التي أوفت بعهودها بعد الحصار، حتى الدول المحاصرة أوفت بعقودها معها، وهذا يفسر لنا الثقة المتزايدة في قطر وجعلها شريكا في مشاريع استراتيجية مثل اتفاقية النقل البري التي تضم ثلاثا وسبعين دولة واتفاقيتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن فتح الأجواء بين قطر ودول الاتحاد ومشروع الممر الذهبي جولدن باس وغيرها من المشاريع التي سنحاول قراءتها وبيان الفوائد التي تعود على الدولة منها. [email protected]