22 سبتمبر 2025

تسجيل

تفاؤل وواقعية في ليبيا

20 فبراير 2012

مررت إحدى الفضائيات عنواناً عابراً: الليبيون بعد عام متفائلون ومتدينون ومنقسمون.. ويمكن أن نضيف: وميليشيات قائمة على سلاحها ومتقاتلة أحياناً و"فلول" لا تزال منتشرة هنا وهناك، هذا هو الواقع. لكن يجب ألا ننسى أن ما نشهده اليوم ليس "ما بعد" نظام القذافي، أي ليس النظام الجديد الذي يعبر عن طموحات الليبيين، حتى انه ليس "المرحلة الانتقالية"، بما تعنيه من تنظيم وتدبير في اتجاه "الانتقال" الحقيقي. انها مرحلة التعامل مع تداعيات سقوط النظام السابق، وفي الوقت نفسه هناك عمل واعداد للاستحقاقات المقبلة وأهمها انتخاب المجلس التأسيسي الذي سيضع الدستور الجديد. من الطبيعي أن يهتم الإعلام بما يصعب قبوله كالانتهاكات لحقوق الإنسان في "سجون الثوار"، أو أن يبرز ما هو متوقع كالاقتتال بين الفصائل نظراً إلى الفوضى التي سادت بعد وصول الثوار إلى طرابلس مازجين ضمها أو انضمامها إلى الثورة وإسقاطها كما لو أنها "عاصمة العدو" وليست عاصمة البلد، عاصمتهم، كان من الطبيعي أيضاً تسليط الأضواء على التنافس، وبين أبناء القبائل كبيرها وصغيرها، فكثير مما يقال في الاعلام بعكس الواقع، ثم ان تسمية الأماكن والجماعات بمدلولاتها الاجتماعية ليست اعتداء على الحرمات والخصوصيات وإنما محاولة لفهم حركة الصراعات أو التحالفات. كلما حاولنا أن نحلل حال أي بلد عربي تخلص من حكم مستبد، يجب أن نكرر بلا كلل أن الانتقال إلى ما بعده لن يكون سهلاً. وهذه الفئات المتناحرة بعد أن تحقق الثورة هدفها الأول (إسقاط النظام) ستجد نفسها أمام صعوبات بناء ما تطمح إليه من الصفر تقريباً، بل ستصطدم بكون قدراتها التي تمكنت من اكتسابها خلال العهد البائد تبقى متواضعة مقارنة بما هو مطلوب. ومن قبيل التفاؤل والواقعية يجب أن نكرر أيضا بلا كلل أن المرحلة الانتقالية ستكون عمليا مراحل، وان الوضع التوافقي الذي يصنع الاستقرار ويضمنه لن يتبلور إلا بعد تجارب قد لا تخلو من صراعات مريرة، كثيرون ربما يستعجلون في المقارنة بين الأوضاع الراهنة وتلك التي سادت في أيام النظام الساقط، خصوصاً إذا استمر الاضطراب وتكررت إراقة الدماء وتعقدت صناعة القرار وبان ضعف الحكام الآنيين وتخبطهم، هذه مقارنات مفهومة، ولها ما يبررها آنيا، لكنها سطحية ومتسرعة في الحكم على وضع لا أحد يقول إنه نهائي أو أنه الوريث الوحيد للوضع السابق، ومن يعتبر أن اربعة شهور كافية للخروج من صدمة خلع أربعة عقود من عمر بلد وشعب، كمن يعتبر أن الدمار الذي تخلفه أي حرب يمكن أن يعاد الإعمار بعده بلمح البصر. لعل أكثر ما هو مفتقد في ليبيا منذ غداة انتهاء الثورة يمكن أن يكون الثقة تحديدا بين الأطراف الذين أداروا تلك الثورة، إذ أن فريقا منهم تم إقصاؤه بفعل حملات شخصية، وعلى افتراض أنه كانت هناك قوى قامت به استقوت بالسلاح وبقابليتها لاستخدام العنف ضد رفاق الطريق (كما فعلت بتصفية عبدالفتاح يونس) وبالتالي فهي لم تعزز الثقة الأهلية – الوطنية بل زادتها اهتزازاً، وينبغي التذكير بأن انعدام الثقة كان من الأدوات التي استخدمها النظام السابق ليطبق قاعدة "فرَّق تسد" داخل الحكم وخارجه. واقعياً لم تبعد الثورة الليبيين إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، أي إلى ما قبل انقلاب القذافي، بل لعلها اعادتهم إلى أوائل الخمسينيات، مع اعلان الاستقلال، بغية استرجاع هويتهم الوطنية التي كانت لا تزال في طور صهر الاقاليم الثلاثة في كيان جغرافي وسياسي واحد. ولأن النظام السابق تلاعب بمكونات المجتمع وميز بين الاقاليم فإن كل المخاوف القديمة استيقظت وجعلت الحكومات كافة تعتبر ان عليها ان تؤمن لنفسها مكانا ومكانة في طرابلس، طالما انها مركز الدولة والمصدر الذي يفترض أن تتوزع منه الثروة على مختلف الأنحاء لئلا تبقى هناك شكوى من تهميش أو إهمال، وهذا يوضح في جانبه حرص فصائل المدن على إبقاء فروع مسلحة منها مرابطة في طرابلس، فثمة دولة جديدة تتخلق ويريد الجميع أن يكون صوته مسموعا فيها بل ان يكون شريكا مباشرا في أي قرار. فلا يمكن تصور حكومة تعمل في ظل الخوف من غضب هذه الفئة أو تلك، حتى لو كانت انتقالية، ثم ان المواطنين سرعان ما استشعروا بأن أي تغيير جوهري لم يحصل، طالما أن المسلحين يحتلون الشوارع في العاصمة وغيرها، وخصوصاً لأن بعض الأطراف بات يمارس سلطة مشابهة في تطبيقاتها للسلطة المنتهية، وبالتالي فإن ما تغير هو المسمى، وكان مذهلاً ذاك التمايز الصراعي الذي افتتح غداة دخول طرابلس بين إسلاميين وليبراليين وكأن هذين الطرفين لم يخوضا لتوهما معركة واحدة لإطاحة القذافي ونظامه، وقد أقنع الإسلاميون أنفسهم بأنهم حققوا النصر من دون مساعدة حلف الأطلسي، ثم اقنعوا أنفسهم بأن مواطنيهم "الليبراليين" هم في الحقيقة أطلسيون ينبغي النأي عنهم أو استبعادهم. من المفترض أن تزول كل التمايزات بفعل أول انتخابات يمكن إجراؤها ليصبح المنتخبون ممثلين عن الفصائل الثورية، القبلية والمناطقية، وحراسا لمطالبها وطموحاتها، لكن إعادة بناء مؤسسات الدولة، وبالأخص الجيش والأمن، لا يستطيع أن ينتظر، فإذا لم يباشر ويتقدم قبل الانتخابات فإن الحالة الميليشياوية ستلقي بظلالها على الاقتراع، وعلى أداء المنتخبين في ما بعد. رغم كل شيء، لا يمكن لأحد القول إن النظام السابق أمام الليبيين جنة لم يعرفوا قيمتها وكان يجب أن يحافظوا عليها، فالفوضى والتخبط والاضطراب تقلق الليبيين حالياً لكنهم موقنون بأنهم لن يسمحوا أبدا بعودة حكم الاستبداد، أما المصاعب الراهنة فلابد أن تزول تباعاً.