13 سبتمبر 2025
تسجيلكثير من الناس يرون "الأمانة" هي قيام الإنسان بحفظ ما يودع لديه من مال، فإن وافاه صاحبه كان أمينها وإن أنكره كان خائناً، وهذا وإن كان من معاني الأمانة إلا أنه في الواقع أضيق حدودها، يقول تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا)، "الأحزاب: 72"، وطبيعي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط، فذلك ما لا يفيده نص الآية، وإنما نستشعر أن المراد "بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة" العالم كلها ما عدا الإنسان وإن الإنسان وحده هو الذي أهل بطبيعته واستعداده للإنصاف به. وبذلك يكون معنى الأمانة ملازما للعقل الإنساني والروح الإنسانية، فأصبح تحديدا للأمانة الواردة في الآية هو التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء. فالعقل أمانة لدى الإنسان إن عمل بمقتضاه ونظمه بالعلم والمعرفة كان قائما بحق الأمانة. والجسم أمانة لديك، فإن أنت غذيته ورفقت به فلم ترهقه بالأعمال كنت محافظا على الأمانة، وفي ذلك يقول عليه السلام: "نفسك مطيتك فارفق بها". وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في صلة القربى، ويلزمك حفظهم والنصح لهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائما بالأمانة: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا)، "التحريم: 12". والشعب في أيدي الحكام والمسؤولين أمانة فإن قاموا بما يجب عليهم نحوه من نصح ورعاية وصيانة لكرامته وحريته كانوا أمناء أوفياء، وإلا كانوا من أغش الناس وأكثرهم خيانة. والعلم أمانة في نفوس العلماء، إن وطؤوا للناس سبله، وكشفوا في الكون أسراره، واستعملوه في الرفاهية الإنسانية وخيرها وسلامتها، كانوا أمناء أوفياء يستخدمون ثواب الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، "فاطر: 28"، والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به، وأداء الحقوق الاجتماعية فيه، كانوا أمناء أوفياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين (وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، "الحديد: 7". وهكذا نجد الأمانة تنتظم الاستقامة في كل شؤون الحياة، من عقيدة وأدب وتكافل اجتماعي، وسياسة حكيمة وخلق حسن كريم، والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود سر سعادة الأمم وشقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت خير أمة أخرجت للناس.. وكلنا يعرف قصة المرأة العربية التي سرقت متاعا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء أهلها يستشفعون لديه لإسقاط العقوبة عنها فغضب عليه السلام وقال: "... لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعاً. وعندما مر علي كرَّم الله وجهه في المسجد فرأى واعظا يعظ الناس فقال له: أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه؟ قال لا، فقال علي: هلكت وأهلكت، ثم منعه من التحدث إلى العامة.. وهذه هي أمانة رئيس الدولة في صيانة العلم وحفظ عقائد الناس من أن يفسدها الجاهلون. ولقد كان صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – من أكثر ملوك عصره توفيقا في الفتوح والنصر، وكان نصيبه من الغنائم كبيرا جدا، أوقفه كله مدارس ومشافي ومساجد ولم يترك لأولاده شيئا. وهذه هي أمانة القائد المجاهد الذي يأبى أن يتاجر بجهاده ويرضى بالله وجنته وثوابه بديلا. ووقف الشيخ العز بن عبدالسلام قاضي القضاة في دمشق مرة في وجه سلطان دمشق، وأنكر عليه تعامله مع الافرنج مقابل نجدتهم إياه مع أخيه سلطان مصر، واعتبر الشيخ ذلك خيانة للمسلمين في حق البلاد، فلما عزله السلطان عن منصبه أبى الإقامة في بلد يخون فيه حاكمه حقوق الشعب وسيادته. وهذه هي الأمانة؛ أمانة عالم يصدع بالحق في وجه حاكم ظالم ويكشف خيانة الحاكم للشعب دون أن تأخذه في الله لومة لائم. ونعرف جميعا قصة تصدق عائشة بمبلغ كبير وليس لديها ما تفطر عليه، وهذه أمانة الغنى المؤمن، نسي جوع نفسه ليذكر جوع غيره من أبناء الشعب. واليوم.. أيها الشباب، ارتفعت الشكوى من سوء الأوضاع في مجتمعاتنا الحاضرة، حتى لا تجد راضيا يتحدث إليك عن مجتمعه حديث المطمئن إلى سعادته، الواثق بحقه، فهل تجدون لذلك سببا يجمع أسباب اضطرابنا كلها إلا وصفا واحدا وهو ترك الأمانة. هذا وبالله التوفيق.