11 سبتمبر 2025
تسجيلخروج الشعب في مظاهرات واحتجاجات تؤدي لهرب طاغية كما حدث في تونس.. ذلك أمر فيه ما فيه من الشهادة على قوة ذلك الشعب والدليل على قدرته، وفيه ما فيه من معاني التضحية والفداء والإدراك لقيمة الحرية والوعي لقدرة الشعوب على التغيير والإرادة والعزم، وفيه ما فيه من الإحساس بروح الجماعية والمسؤولية التضامنية وما لا ينكر أو يستصغر.. ولولا أن محمد البوعزيزي – مفجر هذه الثورة - وجد من حوله من يتضافر معه ويشعر بمأساته ويغار على دمه لراح ضحية كملايين الذين سحقتهم آلة الطاغية إما بالقتل أو السحل أو السجن والذين مزقت إنسانيتهم أو نهبت أموالهم وأعراضهم أو كبتت حريتهم.. كل ذلك لا ينكر.. إن تحول الهارب من فرعون كان يقول " أنا ربكم الأعلى " إلى نعامة فتخاء تهرب من صفير الصافر وإلى جبان رعديد قلبه في جناحي طائر.. ذلك إنجاز ينسب إلى الشعب الذي أخافه وأبطل سحره وخلعه.. وينسب أيضا إلى طبيعة الباطل الذي سرعان ما يتهاوى عندما يلقى رياح تغيير حقيقية (إن الباطل كان زهوقا) ولنتذكر أننا نتحدث عن نوعية من زعماء ما جربناهم في الهيجاء وما جربوا أنفسهم فيها ؛ وإن كانوا في الهريبة كالغزال.. أن يستقيل حكام تونس الجدد (القدماء) من حزب الرئيس الهارب ويقدمون الوعود بتحرير الإعلام والرأي العام من قيود الإرهاب الفكري والتطويق الأمني وبإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة بعد شهرين أو سبعة أشهر أو حتى بعد سنة.. ذلك بل ربعه أو عشره إن تحقق فسيكون إنجازا أشبه بالمعجزة.. لكن.. وماذا بعد أن هرب " الفرعون الأكبر "؟ وإلى أي مدى يمكن الركون إلى هذه الوعود التي كنا نسمعها مع كل انقلاب في مشارق أمتنا ومغاربها؟ ومن يضمن أن يقع التغيير بعد شهري المهلة الدستورية خاصة أن الحكام الجدد هم " هامان فرعون " وهم الذين كانوا يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وعصاه الغليظة التي يكسر بها ظهور البسطاء وينهش بها أجسام الأبرياء؟ وإذا كان التشكيل الحكومي الجديد قد تجاهل أحزاب المعارضة الكبيرة والحقيقية والتي ما جاء التغيير إلا تراكما على نضالاتها وجهاداتها وتضحياتها.. إذا كانت البداية وحيث الشعب لا يزال في الشوارع، وحيث الأمن لا يزال منفلتا والحكام الجدد لا يزالون (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) ؛ إذا كانت البداية من هذه الخطيئة فماذا يتوقع أن تكون النهاية؟ وماذا سيفعلون بعد أن تستقيم لهم قناة الناس وتستقر لهم الأمور؟ وماذا وماذا.. قد يكون الوقت مبكرا للحكم على كل ذلك ولكنها أسئلة من الضروري أن نسألها ومن الواجب أن تبقى ماثلة في وجداننا ووجدان كل تونسي إلى أن تتحقق وهي العلامات الحقيقية للنصر الحقيقي الذي لم ينجز بعد! أرأينا كيف التفوا على الشعب التونسي وعلى ثورته! وبعد أن هرب رئيسهم! أرأينا كيف انقلبت الأمور لصالحهم وصالح ذات الرموز التي أكلت من لحم شعبها وشربت من دمه وباعت من كرامته.. المسألة بسيطة بالنسبة للنظام وستكون في ذهنية كل نظام مما يتوقع أن يلقى نفس المصير قريبا أو بعيدا.. وقد نجحت الخطة " أمران اثنان أو جملتان حسمتا الأمر وسرقتا الثورة حتى الآن 1- ما سبق من تفكيك البنى الأساسية للمعارضة 2- وإشاعة الخوف في الناس من خلال تحريك عناصر معدة مسبقا ومسلحة للنهب والقتل وإثارة الفوضى ألجأت الناس إلى طلب حماية الجيش وقوى الأمن.. لقد فطن ابن علي باكرا إلى تفكيك البنى الأساسية للمعارضة.. وها هي الجماهير اليوم بلا رأس يقودها ولا لب يحركها ولا أدنى فكرة لسد الفراغ الدستوري لديها، وبعض المعارضين غرق في القبول ببقايا النظام.. (سمعت قادة أحزاب ومنظرين مهمين وأسماء كبيرة في الكتاب وقادة الفكر والرأي وفي المعارضة التونسية.. عندما سئلوا عن حل مشكلة الفلتان عولوا على الجيش وناشدوا " المخلصين " من قوى الأمن.. التي هي جزء لا يتجزأ من النظام السابق.. والسؤال هنا لماذا يكون هذا هو كل ما يملكونه؟) هذه هي الخطة وهي التي جعلت الناس يتقبلون محمد الغنوشي الذي كان يد ابن علي اليمنى وفؤاد المبزع الذي كان يده اليسرى.. الشعب التونسي لم يخرج من عنق الزجاجة حتى الآن، وثورته لم تسلم له حتى الآن، وأكثر من ذلك يمكن القول وبدون مبالغة لقد سرقت الثورة حتى الآن والنظام ورموزه تمكنوا من احتوائها (حتى الآن أيضا) بصرف النظر عما سيكون وعما لا يزال يقدمه بقايا النظام السابق من تنازلات قد تنتهي بالنصر الحقيقي والتام.. ذلك يجب أن نقوله، وأن نفهم خلاصاته وأن نعمل على استدراك ما فات منها.. فالتجربة قد تكرر علينا كشعوب وعليهم كنظم تشترك مع نظام ابن علي في الفساد والاستبداد والعمالة للأجنبي وانتهاب الخيرات وتجيير مقدرات الدول لهم ولعوائلهم ومحاسيبهم.. وأخص هنا خلاصتين اثنتين : أولا: لقد أثبتت أحداث تونس والكيفية التي هرب بها الطاغية وما نالت يداه وما فعل أتباعه من بعده.. كل ذلك أثبت أن من نظمنا من لا تهمه إلا مصالحه الذاتية شخصيا وحزبيا وجهويا، وأنهم في سبيل ذلك مستعدون لطحن الشعب والتاريخ والاستقلال.. بالتالي فإنه لا مقاسمة مع هذه النظم.. هذه النظم يمكن معرفتها وتحديدها بالعين المجردة.. وأحد المقاييس الكبيرة والتي لا يختلف عليها هو القضية الفلسطينية وما يتبع ذلك من علاقة مع العدو الصهيوني قربا أو بعدا.. هي المفاصلة إذن والذهاب إلى آخر المدى في عزلهم وإبعادهم وعدم تقبلهم أو الانخداع بنبراتهم أو عبراتهم (هنا يصح القول: إن رموز النظام القديم في تونس وأي نظام يسقط على نفس المنوال تجب مطاردتهم وطردهم من أية توليفة سياسية لا أن تعاد منتجتهم قادة وسادة ولا أن يعاد تصديرهم للشعوب كشركاء مقبولين وكأمل يمكن أن يثمر وطنية وحرية). ثانيا: لقد أثبتت أحداث تونس وفقدان الدور الحقيقي المتقدم والمتناسق للمعارضة أن جهود المعارضات السياسية في بلادنا يجب أن تنصب على التقارب فيما بينها وعلى التقاسم العادل لأدوار العمل الوطني واختصاصاته وعلى تكوين رؤية شاملة للتغيير وصولا إلى اندماجات فكرية وحزبية وجهوية تضيق هوامش الفتنة فيما بينها.. ومن ناحية العلاقة مع الجماهير فيجب أن تقوم على أساس التواصل وصناعة الثقة في شخوص المعارضين ومناهجهم ومواقفهم وارتباطاتهم داخليا وخارجيا.. نسجل هنا كل الاحترام والإعجاب بالحركات الإسلامية والحركات القومية التي استطاعت تجاوز سوء الظن والاختلافات الأيديولوجية فيما بينها لإنجاز قاعدة انطلاق واسعة ووضعت برامج وعقدت مؤتمرات في سياق ذلك، كما نسجل الأسى والأسف على حالة بعض المنتسبين للعمل الإسلامي الذين لا يفكرون إلا في الأداءات الأمنية من المواجهة ويتحولون - في نظر الناس – إلى مجرمين وإرهابيين لا يفهمون إلا الدم ولا يجيدون إلا القتل، وينقطعون عن المجتمعات.. وتستثمر النظم البالية المتهرئة أعمالهم هذه.. (هنا سؤال للذين فجروا كنيسة القديسين في مصر عندما كانت الاحتجاجات الجماهيرية على تزوير الانتخابات في أوجها وكان يؤمل منها الكثير.. السؤال وبمنطق السياسة والدين والمصلحة والعقل والمنطق والنتائج.. هل هؤلاء أصابوا أم أخطأوا؟ وهل جاهدوا أم أجرموا؟ وهل نفعوا التيار الإسلامي أم أنقذوا النظام؟ وهل في توقيت فعلتهم حكمة لا نعرفها؟ وإذا كان التحليل السياسي لا يكفي في الحكم على ذلك.. فلينظروا إلى أثر ما فعلوا! آخر القول: الثورة نشبت والانتفاضة انطلقت وتحول كبير في تونس قد بدأ.. ولكن أين صارت الثورة؟ وأين رست الإنجازات؟ ولماذا يرضى المنتصر بالفتات؟ وهل هذه هي التحولات التي يجب أن تحدث وأن تكون نتاج الثورة الدموية التي غسلت شوارع تونس بدماء الأبرياء؟ وإذا خبت نار الثورة التونسية المجيدة قبل أن تنجز التحرر الكامل ؛ فمن يضمن أن تتقد من جديد، ومتى؟