15 سبتمبر 2025

تسجيل

خيارات التصويت في الرئاسية تفجر الأزمة الداخلية في النهضة

19 ديسمبر 2014

من هو الأكثر إيماناً بالديمقراطية؟ الذي يصوت لمصلحة انتخاب الباجي قائد السبسي لإنقاذ الدولة المدنية في تونس، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، دولة القانون، بعد أن بات من المستحيل على الشعب التونسي أن يقبل تحويل جهاز الدولة إلى دكتاتورية شخصية تختزل هويّةَ الشعب في هويّة الحاكم؟ أم الذي يصوت لمصلحة المنصف المرزوقي لإنقاذ الثورة؟ تلك هي المعادلة السياسية والانتخابية الصعبة القائمة التي تلخص المشهد السياسي في تونس، التي تتهيأ لعملية حسم انتخاب أول رئيس الجمهورية الثانية يوم 21 ديسمبر الجاري.هذه الجمهورية الثانية التي ستكون بالتأكيد امتداداً تاريخياً وحضارياً للجمهورية الأولى التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1956، لكنها بالتأكيد ستختلف عنها من حيث الرؤى والخيارات السياسية والاقتصادية. وتمثل الحدث الأبرز في المشهد السياسي التونسي في استقالة السيد حمادي الجبالي الأمين العام السابق لحركة النهضة من حزبه الإسلامي، حيث أصدر هذا الأخير بيانا يعلم فيه بانسحابه من تنظيم الحركة وانصرافه للتفرغ لمهمة الدفاع عن الحريات، وحمل البيان أيضا بعض الإشارات التي تدل على موقفه المخالف لمنهج الحركة وذلك بالانتصار لما سماه «منهج الثورة السلمي المتدرج». ومن المعلوم أن السيد حمادي الجبالي كان يختلف مع توجهات حزب حركة النهضة منذ ترؤسه حكومة الترويكا الأولى،إذ أعلن الانسحاب من رئاستها،لكن مبادرته باءت بالفشل، ولم تقبل، الأمر الذي اعتبره المحللون في تونس بأنه سابقة في تاريخ الأحزاب السياسية بأن ينقلب الأمين العام لحزب في السلطة على حزبه ويخرجه منها ويطرح بديلاً آخر ثم وهو الأهم يبقى في منصبه، ولولا أن رفضت قيادته وأجبرته على الاستقالة من الحكومة لظل يحكم بتفويض منها ولكن من دونها.ومنذ خروجه من الحكومة ابتعد ولم يعد يحضر اجتماعات حزب حركة النهضة الإسلامي، ولم يشارك في اتخاذ قراراته سواء داخل المكتب التنفيذي أو داخل مجلس الشورى رغم الاحترام الكبير الذي وجده من كل أبناء النهضة ورغم أن منصب الأمانة العامة بقي على ذمته أكثر من سنتين وهو غائب عنه ولم يتم تعيين بديل عنه إلا حينما أصر على عدم العودة إليه علنا.ثم قدم مقترحه بالترشح للرئاسة ولما لم يجد التجاوب من أبناء النهضة لسبب بسيط يعود إلى إن الحركة قررت عدم الترشح لهذا المنصب من الأساس. في بيان استقالته، كشف الجبالي عن السبب الرئيس الذي دعاه إلى الانسحاب نهائيا من الحركة، ويتمثل في أن مشروع الإسلام السياسي في تونس: « يواجه اليوم تحديات جسام ومخاطر ردة داخلية وخارجية وضعت شعبنا وقياداته على المحك مجددا وأمام امتحان: إما مواصلة النضال لإنجاز حلقات هذه الثورة السلمية على طريق صعب وطويل. وإما تخاذل واستسلام يفضي لا قدر الله إلى انتكاسة، والعودة بشعبنا إلى حلول اليأس والعنف والتطرف والإرهاب».وكشفت استقالة رئيس الحكومة الأسبق الأمين العام السابق لـ«النهضة» حمادي الجبالي، عن عمق الأزمة الداخلية التي تعاني منها حركة النهضة، لاسيَّما مع بروز خطين واضحين يتصارعان في الداخل، خط متشدد يدعو إلى تصدر المعارضة ومساندة المترشح منصف المرزوقي، وخط يدعو إلى العودة إلى الحكم الحالم والتزام الحياد الجدي خدمة لفوز ساحق للباجي قائد السبسي. وكان السيد حمادي الجبالي دعا في بيان وحيد إلى التصويت إلى مرشح يحافظ على مكاسب الثورة وهذا التصريح وأن اعتبره البعض انتصارا لروح الثورة ولخط الحفاظ على نهجها فقد اعتبره البعض الآخر مزايدة مجانية على الموقف الذي اختارته قيادة حركة النهضة بانتهاج خيار الحياد عن دعم أي مرشح خاصة أن الجميع يعرف أن علاقة السيد الجبالي لم تكن جيدة بالمرشح للرئاسية السيد المنصف المرزوقي.و أكّد الأمين العام السابق المستقيل من حركة النهضة حمادي الجبالي أنّه على خلاف مع قيادة حزبه، بسبب تثبيت موقف وقرار مجلس الشورى الداعي إلى الالتزام بالحياد في علاقة بالانتخابات الرئاسية في دورها الثاني، إذ اعتبر الجبالي إنّ الحياد في هذه الحالة لايمكن أن يضمن التوازن في البلاد التي مازالت تعيش على وقع الانتقال الديمقراطي مشدّدا على أنّ موقفه هذا ليس انتصارا للمترشح الرئاسي محمد منصف المرزوقي بل هو تنبيه من خطر هيمنة طرف واحد على الحياة السياسية في تجربة هشّة. ومنذ نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جاء فيها الباجي قائد السبسي في المرتبة الأولى،أصدر حمادي الجبالي بياناً سياسياً في 27 نوفمبر الماضي، بعنوان: « «مرشح يفرق بين أبناء شعبه لا يستحق أن يكون رئيساً »، طالب فيه، الباجي قائد السبسي بالاعتذار للتونسيين عما بدر منه من تصريحات اعتبرها محرضة على الفتنة والتقسيم الفئوي بين شمال البلاد وجنوبه.ودعا الجبالي إلى انتخاب مرشح ليس من الحزب الفائز بالغالبية لضمان التوازن والتشاركيّة الحقيقية في الحكم ومن أجل مصلحة تونس دون سواها وذلك في كنف الوحدة الوطنية مع حق الاختلاف والتنوع، على حد توصيفه.هذا الموقف كسر حياد «النهضة» وأظهرها في موقع الداعم صراحة للمرزوقي، نظراً إلى وزن الجبالي عند قواعد الحركة وتاريخه النضالي، وهو ما أثار حفيظة طيف واسع من القيادات الباحثة عن السلم البرلماني في بدايات الفترة المستقرة مع الخصم التاريخي والذي لا يكون إلا باتخاذ موقع الحياد من حرب الرئاسة. وقد وجد الجبالي نفسه بموقفه هذا، ينسجم مع القيادات المتشددة داخل حزب النهضة الإسلامي، ماشجع الشيخ الحبيب اللوز، أحد مؤسسي حركة «النهضة» ومن قياداتها التاريخية، انسلاخ الجبالي عن الحركة إلى ما اعتبره «دعوات إلى مد اليد لحزب نداء تونس والاستعداد الذي لامسه عند عدد من القيادات إلى التحالف أو التشارك معه»، معتبراً أن مثل هذه الدعوات لا تعبر عن غالبية داخل مجلس الشورى. فقد أصدر كل من الحبيب اللوز والصادق شورو رسالتين تصبان في نفس الاتجاه، وتدفعان نحو إعلان حزبهما عن مساندة المرشح المنصف المرزوقي، وقد سبقت هاتين الرسالتين استقالة الأمين العام السابق حمادي الجبالي من الحزب، والاستقالة وأن تختلف في مضمونها عما جاء في رسالتي اللوز وشورو فإنها تتفق في جوهرها مع الخط السياسي الذي يدافع عنه الرجلان والداعي إلى الحيلولة دون تقديم أي دعم للمرشح قائد السبسي ولا أي تقارب مع حزبه «حزب نداء تونس». المواقف الثلاثة الصادرة عن حمادي الجبالي والصادق شورو والحبيب اللوز يمكن تلخيصها في موقف واحد وهو عدم وضع النهضة يدها في يد «حزب نداء تونس» وعدم الالتزام بموقف الحياد الذي دعت إليه الحركة وبالتالي التصويت للمرشح منصف المرزوقي وعدم التصويت للباجي قائد السبسي. وهو موقف يجد له صدى واسعا بين قواعد النهضة، التي تنادي بالانتصار إلى الثورة ومبادئها وضرورة تخندق الحركة مع أنصار الثورة التي يحميها من وجهة نظر هؤلاء المرزوقي وليس الباجي قائد السبسي، بل تعتبر الباجي من النظام القديم وأن فوزه سيشكل خطراً على مبادئ الثورة وما وفرته من حريات،حيث تتخوف قواعد النهضة من إمكانية استعادة الماضي البغيض وذكريات تسعينات القرن الماضي. مع اقتراب جولة الحسم في الاستحقاق الرئاسي بين المرشحين قايد السبسي والمرزوقي في الدورة الثانية التي ستجري يوم الأحد 21 ديسمبر الجاري، أصبح هامش المناورة لحزب حركة النهضة ضيقاً جداً، ففي السياسة لا مجال للحياد.و في كل الفترات الصعبة التي مرت بها البلاد طيلة مرحلة الانتقال الديمقراطي المرتبكة، كان القيادي الأول في حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي يلعب دوراً حاسماً في تغليب منطق الحكمة والتعقل في السياسة، لأن تونس لن يحكمها سوى التوافق والتقارب بين مختلف الأطياف السياسية، مهما كانت خلافاتها الايديولوجية والتاريخية، حسب وجهة نظره. وهو ما جعله، وعدد آخر من القياديين، يمدون أياديهم نحو منافسيهم وتجسم ذلك خلال فترة الحوار الوطني من أجل المصادقة على الدستور الجديد،وخلال فترة التوافقات التي سبقت التحضير للانتخابات ولا تزال متواصلة إلى الآن. من الواضح أن الشيخ راشد الغنوشي والخط المعتدل داخل حزب النهضة يميز تاريخيا بين الشق الدستوري في حزب الحبيب بورقيبة وحزب التجمع في عهد زين العابدين بن علي، والذي ينتمي إليه الباجي قائد السبسي، وبين الشق اليساري الذي تغلغل في حزب التجمع في زمن بن علي، والذي يمثل الخط الاستئصالي المتشدد ضد الإسلاميين. وحسب بعض المحللين العارفين بتاريخ الصراع الطويل بين النظام السابق والإسلاميين، يبدو أن الشيخ راشد الغنوشي استخلص الدرس من تجربة نتائج انتخابات عام 1989، حين اختار الإسلاميون مواجهة نظام بن علي، فاستفرد بهم اليسار الانتهازي الذي كان الأداة الاستئصالية للنهضة ثقافيا واجتماعيا بل وحتى أمنيا. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يعمل الشيخ راشد الغنوشي والتيار المعتدل داخل حزب النهضة إلى التقارب مع الباجي القائد السبسي باعتباره يمثل الشق الدستوري المهيمن داخل «حزب نداء تونس»، بحثاً عن صيغة معينة من التوافق للشراكة مع الحكم. والحال هذه، في كل مرة تمر فيها البلاد بأزمة سياسية كبيرة، يتدخّل «الشيخان» راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي للتقدّم بالتجربة الديمقراطية الناشئة خطوة مهمّة إلى الأمام تعكسُ حرصا مشتركا واضحا لتغليب المصلحة الوطنيّة وتجنيب المشهد السياسي القطيعة والصدام. فقد كان تأثير الشيخين بارزا في محطات أخرى هامّة من بينها على وجه الخصوص:أولاً:تأمين نجاح المرحلة الانتقالية الأولى وإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتحقيق أوّل تداول سلمي على السلطة والذي كان طرفاه حينها الباجي قائد السبسي (الوزير الأوّل) وراشد الغنوشي (رئيس الحزب الأغلبي في انتخابات 23 أكتوبر 2011). ثانياً:تأمين نجاح المرحلة الانتقالية الثانية وإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي عرفتها إبان اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي، وكان لقاء باريس الشهير في 13 أغسطس 2013 منطلقا فعليّا لمسار الحوار الوطني الذي مهّد لإتمام صياغة الدستور وتوفير مستلزمات إنهاء الوضع المُؤقت (قانون انتخابي / هيئة انتخابات / حكومة محايدة ومستقلة). ثالثاً:علاقة التواصل التي تبعت نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 26 أكتوبر 2014 حيث تنقّل الغنوشي لتهنئة السبسي وقابل هذا الأخير ذلك بتأكيدات واضحة على أهميّة التوافق ورفض إقصاء النهضة على اعتبارها القوّة الثانية انتخابيا.رابعاً:تأمين عملية انتخاب مكتب رئاسة مجلس نواب الشعب بشكل توافقي وبغالبية مريحة من أصوات النواب تُشجّع على انتظارات جيّدة على مستوى أداء السلطة التشريعية. وأياما قبل الدور الثاني لانتخابات الرئاسة لا يريد الشيخ راشد الغنوشي والخط المعتدل داخل حزب النهضة، أن يرتكب خطأً تاريخياً من خلال مسايرة الخط المتشدد الداعي إلى دعم المرزوقي أمام السبسي، لأن في مثل هذا الموقف، سيجد الباجي القائد السبسي أمام خيار وحيد وهو من حقه لضمان أوفر حظوظ الفوزفي هذه الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية بالالتجاء إلى اليسار الانتهازي الاستغلالي الذي يحسن اقتناص الفرص عكس بعض قيادات النهضة وحينها سيفرضون شروطهم على السبسي والتي تتخلص أولا وأخيرا وفي مجملها ومفردها في التخلص من النهضة واستئصالها نهائيا من المشهد السياسي مستغلين بعض الدعوات «الدولية» في هذا الاتجاه والتي تدعو إليها أطراف كان اليسار الانتهازي ينعتها بالرجعية فصارت الآن تقدمية فقط لأنها ضد الإسلام السياسي، حسب قول مثقف تونسي. حركة النهضة تعيش هذه الأيام مرحلة عصيبة في تاريخها، يتجاذبها تياران، الأول يدافع عنه الشيخ راشد الغنوشي الذي بات يدرك تأثير التداعيات الإقليمية والدولية على التموقع للحركة في المشهد السياسي التونسي، وما تفرضه هذه التداعيات من لعب ورقة التوافق للبقاء أو استراتيجية تونسة الحركة، والثاني يقوده الشيخان اللوز وشورو، وهو تيار معادي للمنظومة السابقة ويدافع عن المحافظة على خط إخواني لحزب حركة النهضة الإسلامي.