12 سبتمبر 2025
تسجيليمارس الإعلام المصري هذه الأيام حربا مفتوحة على المصريين، يصدق في وصفها عنوان الكتاب الشهير، "قصف العقول" للمؤلف البريطاني فيليب تايلور. فما لم يرتد الإنسان خوذة واقية عندما يجلس أمام جهاز التلفاز، فإن عقله يصبح معرضا لأن يصاب بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة التي يوجهها إليه الإعلاميون. وعلى حد مؤلف الكتاب المذكور أعلاه، فإن أسلحة الإعلام مثلها مثل الأسلحة التقليدية، قد أصبحت معقدة بشكل متزايد بفضل ما تحقق من تقدم في أنواع التكنولوجيا، بحيث أصبح الإعلام الآن وسيلة من وسائل الإرغام التي تنسف إرادة المقاومة لدى من يتعرضون له، فالهدف الرئيسي للأبواق الإعلامية التي تنعق صباحا مساء هو أن تحمل الناس على فعل ما لم يكونوا ليفعلونه لو أنهم لم يتعرضوا لمثل هذا الوابل من التضليل والتوجيه السلبي. ومن جانبهم فإن الإعلاميين، بعد أن تحولوا من مجرد ناقلين ومحللين للأخبار إلى صانعين لها، صاروا يستخدمون منابرهم لبث قذائف، يسمونها خطأ رسائل إعلامية. وذلك وبعد أن أصبحوا طرفا صريحا في المواجهة السياسية، وأعلنوا عن تحالفهم الكامل مع قوى العلمنة، التي تتسمى أحيانا بالقوى المدنية، بشكل لا يحتمل المواربة. الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت مفاهيم مثل الحياد المهني، وميثاق الشرف الإعلامي من مخلفات الماضي، وحلت محلها مفاهيم جديدة مثل الكيل بمكيالين، والفجور في الخصومة، وفرض الوصاية على الجماهير. ما ينذر بأن مصر قد أصبحت الآن تحت احتلال إعلامي غاشم مفروض بالقوة الناعمة على إرادة الناس وعلى وعيهم. الغريب في الأمر أن قصف العقول الذي يمارسه الإعلاميون بحق المصريين هو مما لا يحاسب عليه القانون ولا يدينه، وكأن عقول الناس لا يوجد ما يضمن لها الحماية، بل إن أي تفكير في ذلك، أي في حماية الناس من الرسائل السلبية للإعلام عبر إجراءات قانونية، يستغلها هؤلاء الإعلاميون لشن هجوم مضاد، باستخدام بكائيات تحمل عناوين مثل، قصف الأقلام، وتقييد حرية الإبداع، وتكميم الأفواه، إلخ، وهكذا فإن قدر الجميع أن يستمروا في المعاناة جرّاء عمليات قصف وتزييف الوعي التي تقوم بها معظم وسائل الإعلام في مواجهة المواطنين العزل. أما عن مظاهر التزييف في الإعلام المصري فهي متعددة، وقد تجلت مؤخرا في عدد من التناقضات التي نجح الإعلاميون في تمرير الكثير منها للرأي العام. فبمناسبة الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور، أوحى الإعلام للناس بأن تصويتهم بنعم على مسودة الدستور، يعني ضمنا الموافقة على أداء جماعة الإخوان المسلمين، وإعلان الثقة في أداء الرئيس محمد مرسي. وذلك رغم أن مسودة الدستور شارك في صياغتها أطياف مختلفة من القوى السياسية، ولكن نجح الإعلام في تأكيد هذه الفرية بحيث أصبح الكثير من الناس مقتنعين بأن أفضل طريقة لمعارضة جماعة الإخوان والرئيس المنتمي لها هو التصويت بلا وذلك كإجراء عقابي لهم على التعثر والارتجال الذي شاب أداءهم الفترة الماضية. ومن مظاهر التزييف الإعلامي أيضاً تبني القضية ونقيضها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ففي حالة مادة الشريعة الإسلامية على سبيل المثال، ومن أجل دغدغة مشاعر المصريين، يتم التصريح بأن الجميع مع الإبقاء على المادة التي تجعل مبادئها مصدرا أساسيا للتشريع، ولكنهم رغم ذلك يحشدون بشراسة ضد المادة التي تحدد المقصود منا (المادة رقم 219)، وكأن المقصود أن تظل الشريعة شعارا لا مردود له في الواقع الفعلي. ومن التزييف أيضا تأكيد الإعلاميين في كل وقت على مكانة وأهمية مؤسسة الأزهر وذلك لكي يسحبوا البساط من تحت أقدام تيارات الإسلام السياسي، حتى إذا تم لهم ذلك أو كاد، ألحوا على استبعاده من كافة أوجه العمل العام، وذلك كما حدث عند تناولهم لنص مشروع الدستور في مادته الرابعة والتي تنص على أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر في كل ما يتعلق بالشريعة، حيث اعتبر هؤلاء أن هذا وضع للمؤسسة الدينية في مواجهة الحكومة المنتخبة وصوروه على أنه ترجمة صريحة لفكرة الحكومة الدينية. ومن مظاهر التزييف الإعلامي أيضاً ما يتعلق بموقف الإعلاميين من المؤسسة العسكرية، فرغم أن قوى الإعلام دأبت في الماضي على التحذير من تدخل العسكر في السياسة إلا أنهم كانوا أبرز الداعين إلى بقاء العسكر في السلطة لفترة أطول، وكانوا أشد المتحسرين على انسحابهم من المرحلة الانتقالية قبل أن يتمكنوا من تهميش الإسلاميين. ولعل أبرز مظاهر التناقض في موقف قوى الإعلام هو ما كان من احتفائهم بالدعوة التي وجهها وزير الدفاع للقوى السياسية للحوار الوطني، وكأنهم كانوا يتمنون أن يتم هذا اللقاء لكي يحرضوا العسكر على العودة إلى الساحة السياسية من جديد. بمراجعة حصاد عامين مضيا منذ قيام الثورة المصرية، يمكن تبين أن الإعلام لم ولن يمل من محاولة قصف عقول المصريين بالكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ولم ولن ينسى القائمون عليه قضيتهم الأساسية المتمثلة في التحكم في سلوك المواطنين وتوجيههم إلى عكس قناعاتهم، صحيح أن هذا الصنف من الإعلام والإعلاميين يعلم بكراهية قطاعات عريضة من المواطنين له، ولكنه رغم ذلك لا يتراجع عن حربه التي يشنها ضد المصريين جميعا. لقد نجح هذا الإعلام السوداوي في أن يجعل المصريين جميعا مشدودي الأعصاب على نحو مستمر، وذلك عبر جرعات إعلامية سلبية، لا تلتزم المصداقية أو الحيادية في شيء، تحاول أن تقهر وعي الناس وإرادتهم. وبالفعل لم تعد الأجهزة العصبية لكثير من الناس تتحمل ما تتلقاه ليل نهار من هذه الرسائل السلبية، ولم تعد العقول قادرة على استيعاب كل هذا الكم من التعبئة والحشد الذي لا يهدف إلا إلى جعلها في حالة من الاستسلام الكامل. والسؤال الآن هو من عساه يعوض الناس جراء ما يتعرضون له من ضغوط عصبية ونفسية هائلة يمارسها عليهم الإعلام وهو في حل من أي مراقبة أو مساءلة أو إدانة؟