29 سبتمبر 2025

تسجيل

الاقتصاد اللبناني بين الستينيات واليوم

19 ديسمبر 2012

لم يستطع لبنان تطوير اقتصاده ليس فقط بسبب الحرب، إنما بسبب التقصير في الأداء من قبل القطاع العام. لم تتحدث القوانين والمؤسسات، فبقي الأداء متدنيا ولا يخدم المواطن والمستهلك تحديدا. جميع العوامل الداخلية مرتبطة حكما وبالوقت نفسه بالسياسة والاجتماع والاقتصاد. في الستينات كانت هنالك مؤسسات محترمة وشخصيات سياسية عديدة مميزة تعمل لخدمة المواطن. أما اليوم ونتيجة الحروب، لم تعد المؤسسات قوية بل اللبنانيون لا يحترمون القوانين ويشكون في نزاهة وصدقية وكفاءة معظم من يحكمهم. كانت هنالك أخلاق أكثر بكثير وحساب وعقاب بحيث التزم الإنسان بعمله وسعى إلى رفع إنتاجيته. كان لبنان كما اقتصاده لؤلؤة تنير العالم العربي والدولي، حتى سمي بسويسرا الشرق. ايننا اليوم ليس من سويسرا الغرب بل حتى من سويسرا الشرق الماضية؟ في الستينات، بنيت أجهزة الرقابة والمصرف المركزي واحترمت التوازنات بين المؤسسات وطبق مبدأ فصل السلطات الذي يبنى عليه الاقتصاد الحديث بل الدولة الحديثة. في الستينات، أقر قانون النقد والتسليف الذي كان أساس النجاح المصرفي المستمر. بلغ متوسط التضخم 1.4% مقارنة بـ 14.6% في السبعينات، وذلك بفضل الاستثمارات التي كانت تتدفق إلى لبنان وتحدث نموا قويا متواصلا. الاقتصاد اللبناني في الستينات مختلف جدا عن اليوم لأسباب داخلية وإقليمية ودولية كما لأسباب مرتبطة بالتغير الهيكلي والديموغرافي للشعب اللبناني الذي مر ويمر في حروب مؤذية مدمرة ما زالت توقع الخسائر الكبيرة في المادة والإنسان. لا شك أن الحرب اللبنانية واستمرارها أثرا سلبا على مستوى المعيشة ومؤشرات التنمية ودفعا بمئات ألاف اللبنانيين إلى الهجرة. تؤثر الأوضاع سلبا على الاستثمارات والنمو والبطالة التي تطال الجامعيين من مختلف الاختصاصات. استفاد لبنان كثيرا من الاقتصادات العربية التي اعتمدت الاشتراكية في الستينات، فهجر الينا آلاف المتمولين من مختلف البقاع المجاورة. استفاد لبنان من الوجود الفلسطيني المؤسساتي حيث تدفقت الأموال العربية اليها، فوضعت في المصارف كما في الاقتصاد بشكل عام. استطاع لبنان التواصل مع الغرب بفضل الثقافة التي تميز بها والتي افتقدتها الدول المجاورة. يتنافس لبنان اليوم مع دول ومناطق لم تكن تنعم في الماضي بالمواصفات الحديثة المتطورة كدبي وقطر والعراق وقريبا ليبيا. لم يعد لبنان اليوم النموذج الذي كان عليه، بل أصبح واحدا من عدد من الاقتصادات العربية المرنة التي تستقطب الاستثمارات الخارجية. في الستينات، بلغ النمو الاقتصادي السنوي 4.9% مقارنة بمتوسط انحداري سنوي في السبعينات قدره 5.4% وإيجابي يصل إلى 4.9% في العقد الأول من القرن الحالي. نمت الزراعة سنويا في الستينات بنسبة 6.3% والصناعة بـ 4.5% والخدمات بـ 4.8%. كان هنالك اهتمام بالقطاعين الزراعي والصناعي لكنه زال عمليا منذ السبعينات وحتى اليوم. كان التوازن الاقتصادي هدفا وأساسا للتنمية الاقتصادية الاجتماعية. توزع الناتج المحلي الإجمالي في الستينات على 12% للزراعة و33% للصناعة و68% للخدمات. بني الازدهار اللبناني على هذا التنوع المتوازن الذي غاب بدأ من السبعينات. في سنة 2009، كانت القيمة المضافة بنسبة 78% في الخدمات و17% في الصناعة و5% في الزراعة، أي انعدم التوازن وخسرت المناطق تنميتها وتوسعت المدن بشكل بائس وعشوائي. نسبة الخدمات هي من الأعلى عالميا مقارنة بسويسرا (72%)، الولايات المتحدة (77%) ومتوسط عالمي قدره 70%. إذا أمكن القبول بنسب زراعية متدنية في الدول الصناعية بسبب ارتفاع إنتاجية القطاع، لا ينعكس هذا الواقع على لبنان حيث تعاني الزراعة من ضعف الري والكيمائيات والأدوية والإرشاد التقني. بلغت القيمة المضافة للعامل الزراعي اللبناني 31477$ دولار في آخر العقد الماضي مقارنة بـ 44041$ دولار في أمريكا و43543$ دولار في السويد و46233$ في كندا. في الواقع نمو فترة الطائف اعتمد على العقارات والمضاربات مما سبب ارتفاعا كبيرا في أسعار الشقق والمنازل، كما اعتمد على بعض القطاعات الخدماتية. لم نحسن كمجتمع الحفاظ على الزراعة والصناعة من نواحي الإنتاجية والتنافسية والنوعية. ها هو لبنان اليوم أحد مؤسسي "الغات" ممنوع من دخول منظمة التجارة العالمية التي تضم 157 عضوا بينهم 11 دولة عربية منها مصر والأردن، بل يحصل فقط على مقعد مراقب. لبنان قائد الاقتصاد الحر في المنطقة العربية منذ الأربعينات يراقب اليوم فقط التجارة العالمية ولا يشارك في تحديد القواعد الدولية. في سنة 1960 بلغ الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 830$ مليون أي مثلا أعلى من سنغافورة (700$ مليون). أما اليوم، يبلغ الناتج اللبناني 38.5$ مليار مقارنة بـ 210$ مليار لسنغافورة حيث يتقارب عدد السكان. لا شك أن المؤشرات الإنسانية تطورت ونعني بها الصحية، فانعكست على مستوى العمر المرتقب الذي يصل إلى حدود 70 سنة للرجل و74 سنة للمرأة. أما المؤشرات المالية والنقدية، فكانت أسلم إذ لم يصل ماضيا عجز الموازنات كما مستوى الدين العام إلى ما نحن عليه اليوم. كان دور الدولة في الاقتصاد قويا دون أن يمس بالحريات وكانت الليرة اللبنانية قوية، بل من أفضل النقد العالمي. أما اليوم، فدولرنا الليرة ولم تعد تتمتع بالوهج والصدقية المطلوبة. كانت هنالك ثقة كبيرة بالدولة وأجهزتها والمسؤولين عنها، أما اليوم يقع العكس تماما. ينتشر الفساد أفقيا وعموديا مما يؤثر سلبا على مستوى ومحتوى الإنفاق. أفقد الفساد لبنان جاذبيته في الاستثمار التي كان ينعم بها لعقود. كان ميزان المدفوعات في العموم فائضا، مما أسهم في رفع مستوى الاحتياطي النقدي إلى أرقام غير مسبوقة. هذه السنة سيتحقق عجز كبير في ميزان المدفوعات يفوق الملياري دولار دون أن تكون الأفق واضحة من ناحية حجم رؤوس الأموال المتوجهة إلى لبنان للإيداع أو الاستثمار. كان مستوى التعليم في لبنان من أفضله عالميا، وكان مقدما من عدد قليل من المؤسسات النوعية خاصة الجامعية. تدنى المستوى التعليمي اللبناني من نواحي اللغات والآداب والعلوم بسبب تكاثر المؤسسات وهجرة الكفاءات وعدم وجود أجهزة رقابة متخصصة فاعلة وصارمة. تدنت قيمة الشهادات الجامعية في السوق بسبب افتقادها إلى النوعية التي ميزت لبنان. ما الفائدة من وجود 60 جامعة تقدم برامج في اختصاصات متشابهة تنتج عموما عاطلين عن العمل بسبب الكفاءة. ما الفائدة من التراكض على التعليم الجامعي والهرب من المهني والتقني الذي يعطي مردودا ماليا عاليا بسبب قلة العرض وارتفاع الطلب. لا شك أن مستوى الخبرة التقنية والحرفية والمهنية تدنى دون أن ننسى ابتعاد الناس في العديد من الأحيان عن الممارسة الأخلاقية المطلوبة. لبنان البلد الصغير جغرافيا لا يمكن أن يتميز إلا بالنوعية المرتفعة، وليس بالكميات التي تبقيه صغيرا ومهمشا على الصعيد الخارجي. كانت الإدارة العامة في الستينات تعمل بإنتاجية عالية بسبب فعالية أجهزة الرقابة، أما اليوم فهي غير فاعلة مما يسمح للفاسد بالهرب. رفع الإنتاجية ضروري لكنه صعب في الظروف الحالية. نعيش اليوم في أزمات لحوم وأدوية ومأكولات وحبوب فاسدة، كما لم نشهد تنفيذ عقوبات جدية تساهم في توقف هذه الأعمال المشينة. في الستينات، كان هنالك احتراما للمواطن وكان السياسي يخدم المواطن أكثر بكثير مما هو عليه اليوم. حاليا وفي العديد من الأحيان، يقع المواطن في خدمة السياسي للحصول على الحقوق والخدمات البديهية مما يفقد البلد أي أمل جدي في التغيير والإنقاذ والإصلاح.