19 سبتمبر 2025

تسجيل

الجنائية الدولية في مهب العاصفة

19 نوفمبر 2016

لم تفق المحكمة الجنائية الدولية من صفعة انسحاب جنوب إفريقيا، حتى تلقت صفعة كبرى أخرى من روسيا إحدى أكبر قوتين في العالم. هاتان الصفعتان تجددان طرح أسئلة كثيرة ظلت تدور بلا كلل في الأذهان عن هذه المحكمة؛ فما هي هذه المحكمة؟ وما هي حدود سلطتها؟ وهل تملك حق إجبار الدول غير الموقعة على ميثاقها على التعاطي معها؟ وهل هي محكمة قانونية محضة أم أنها غارقة في السياسة؟ لقد أصبح نظام المحكمة ساري المفعول في الأول من يوليو 2002. وتقول أدبيات المحكمة ونظامها الأساسي أنها أول محكمة مستقلة ودائمة وقادرة على التحقيق ومحاكمة أولئك الأشخاص الذين ارتكبوا أشد الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي. ولهذا ترى أن وجودها أصبح ضرورة ملحة لإنهاء وردع الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي قد ترتكب مستقبلا. وتعتبر نفسها مسؤولة عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان.أما جرائم الحرب، فتعني الخروقات الخطيرة لاتفاقيات جنيف 1949 وانتهاكات خطيرة أخرى لقوانين الحرب، متى ارتكبت على نطاق واسع في إطار نزاع مسلح دولي أو داخلي. فيما يتعلق بجرائم العدوان، فإنه لم يتم تحديد مضمون وأركان جريمة العدوان في النظام الأساسي للمحكمة كباقي الجرائم الأخرى. لذلك فإن المحكمة تمارس اختصاصها على هذه الجريمة وقتما يتم إقرار تعريف العدوان، والشروط اللازمة لممارسة المحكمة لهذا الاختصاص.بيد أن الخروقات والجرائم المرتكبة في فلسطين والعراق وسوريا وغيرها من مناطق النزاعات التي التي يتورط فيها الكبار لا تعني المحكمة في شيء كما دلت التجارب والمواقف المختلفة.. فالرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن لم يغترف شيئا يستحق المحاكمة والمطاردة لا في سجن أبو غريب في العراق ولا في سجون وزناوين غوانتنامو.. كما لم يرتكب قادة إسرائيل شيئا في فلسطين.. حتى الرئيس السوري بشار الأسد لم يرتكب شيئا في سوريا وبالضرورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.وقد أحال مجلس الأمن الدولي قضية دارفور إلى المحكمة بيد أنه أصبح هناك ثلاث أكبر دول في العالم وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين خارج عضوية المحكمة، وهي دول في ذات الوقت لها صفة العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي من مجموع خمس دول أعضاء في هذا المجلس الذي يمثل أعلى سلطة أمنية في العالم.ويعتبر السودان قرار مجلس الأمن رقم 1593 لسنة 2005 الخاص بإحالة السودان للمحكمة الجنائية يناقض بوضوح أحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969. فضلا عن أن قرار القبض على رئيس الدولة، وهو على سدة الحكم، ينافي القواعد المستقرة في القانون الدولي والسوابق القانونية المتعلقة بحصانة رؤساء الدول. ولعل أقوى حجة تدفع بها الخرطوم في وجه المحكمة، أن السودان ليس عضوا في المحكمة وليس طرفًا في نظامها الأساسي ولم يوقع على بنود اتفاقية روما.وربما ذلك يفسر لماذا رفضت ليبيا من بعد ذلك تسليم سيف الإسلام القذافي إلى المحكمة الجنائية وقامت بمحاكمته أمام القضاء الليبي، وذلك لأن ليبيا لم توقع على الاتفاقية وبالتالي فهي غير ملزمة بالتعامل مع المحكمة. وبالتالي فإن هذه المحكمة – وفقا لرأي الحكومة السودانية - ليس لها السلطة القضائية لمحاكمة المواطنين السودانيين، لذا فإن حكومة السودان ليست معنية بتنفيذ أي قرار تصدره هذه المحكمة. وهو ما يعتبره السودان موقفا قانونيا.وأصاب تحدي البشير للمحكمة ودعمه من دول عديدة ومهمة بل بعضها عضوا في ميثاق المحكمة، المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا بالإحباط الشديد وشعرت بإهانة كرامة اعتبارية المحكمة. وأعلنت بنسودا في ديسمبر الماضي في تقرير لها لمجلس الأمن أنها جمدت التحقيقات وحفظت ملف جرائم حرب في دارفور بسبب عدم تحرك المجلس للضغط لأجل اعتقال البشير وثلاثة مسؤولين آخرين للمثول أمامها.إفريقيا ربما نجحت خطط الخرطوم بالعزف على وتر انحياز المحكمة ضد الأفارقة في تشكيل رأي عام إفريقي ضد المحكمة الجنائية مع وجود حيثيات ماثلة عززت الجانب الذي ركزت عليه الخرطوم في معركتها ضد المحكمة. وقد انتقد ممثلي الاتحاد الإفريقي كثيرا المحكمة الجنائية متهمين إياها بأنها ركزت بشكل كبير على انتهاكات حقوق الإنسان في القارة الإفريقية. بل طلب الاتحاد من المحكمة وقف إجراءاتها ضد أي رئيس أثناء فترة حكمه.