18 نوفمبر 2025

تسجيل

فشل القبضة الغليظة

19 نوفمبر 2014

تقول الحكمة السياسية "ليس معنى أن لديك أفضل مطرقة، أن كل مشكلة تواجهها يمكن أن تنظر إليها كمسمار"، فطبيعة المشكلة هي ما يحدد أسلوب الحل، وليس العكس، وكون الدولة الحديثة تحتكر استخدام القوة فإن هذا لا ينبغي أن يدفعها إلى استخدامها بداع وبدون داع. ولا يتوقف التحذير على الاستخدام الفعلي، فمجرد استعراض القوة لا يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتيجته المباشرة، وهي إرهاب المخالفين، وإنما إلى استفزازهم وتشجيعهم على التحرش بمصدر هذه القوة، خاصة في إطار الجماعات التي يشعر أفرادها بالغبن وعدم المساواة مع غيرهم. ومن ناحية أخلاقية فإن مجرد امتلاك القوة الباطشة لا يعطي الدولة الحق في استخدامها في أي وقت وبالطريقة التي تريدها، وإنما لابد من النظر إلى الشروط التي بموجبها وافق المجتمع على احتكار الدولة للعنف، فإذا كان التعاقد بين الدولة والمجتمع قد خول لبعض مؤسساتها امتلاك واستخدام أدوات القوة في مقابل التزام هذه المؤسسات بتوفير الأمن للمواطنين، فإنه قد نظم هذه العلاقة في إطار القانون، ولم يجعل استخدام القوة حقا مطلقا.صحيح أنه قد يحدث في بعض الدول التي حققت مستويات معينة من الرفاه الاقتصادي أن يتقبل الناس المنطق الأمني بدرجة معينة، ولكن مستوى القبول الاجتماعي للحلول الأمنية يقل أو ينعدم في الدول التي تسجل فشلا اقتصاديا وعجزا في مجال الرعاية الاجتماعية، ففي مثل هذه الحالات تؤدي المبالغة في استخدام الحلول الأمنية ومنطق القبضة الغليظة إلى نتائج عكسية.فالجماعات التي تعاني من مظالم اجتماعية وسياسية بفعل قصور الدولة عن أداء أدوارها تكون عادة أقل تسامحا إزاء الاستخدام المفرط للقوة بحقها. ومن الطبيعي أن يقفز النموذج الجزائري إلى الذهن في هذا السياق، حيث عانت الجزائر جراء السيناريو الأمني الذي اتبعه قادة المؤسسة العسكرية هناك من سرطان اجتماعي هاجمت فيه خلايا المجتمع بعضها البعض، وتوقفت أجهزتها المناعية عن العمل، حتى أصبح جسد الدولة مشلولاً وعاجزا عن أن يسترد عافيته. في مثل هذه الحالة وغيرها لم يؤدي الاستخدام المفرط للقوة إلى إخضاع التمرد والمتمردين، ولكن إلى تعميق إحساسهم بالظلم ورغبتهم في الانتقام، حيث يسود بينهم منطق "وهل سنخسر أكثر مما خسرناه؟ فإذا ما تواجد، بالإضافة إلى هذه المظالم، الإطار الفكري الذي يبرر التشدد والعنف (مثل أفكار التكفير)، حينها يتحول العنف إلى عنف أيدولوجي، ويكتسب وقودا مضاعفاً، حيث يزداد اقتناع معتنقوه بعدالة قضيتهم، وينسون الأسباب الحقيقية لغضبهم وتمردهم، ويدخلون في إطار متتابعة فكرية تبدأ بالاضطرار إلى العنف، ثم تبرير العنف، وانتهاء بإضافة مسحة من القداسة عليه، بوصفه نوعا من الجهاد، وليس شكلا من أشكال الاحتجاج على مظالم اجتماعية وسياسية.بدورها عندما لا تعي الدولة طبيعة هذه المتتابعة الفكرية، ولا تتعامل معها بالحكمة اللازمة، وتقرر فقط مواجهتها بعنف مضاد، فإنها تتحول من ضابط للإيقاع السياسي والأمني إلى مجرد طرف في صراع، كل فضيلته أنه يمكنه تبرير أفعاله للجماهير على نحو أكبر، ولكن هذه الميزة لا تضع حدا للمواجهات، ولا تحمل أملا في تحقيق نصر حاسم.فمن غير الوارد أن تنجح أي دولة في القضاء المبرم على جزء من تركيبتها البشرية، حتى لو كانت تصنفهم في خانة الإرهاب والإرهابيين. ورغم أهمية السؤال الأخلاقي حول مشروعية انتهاج سياسات استئصالية بحق مواطنين أيا كان توصيفهم، يظل التساؤل الأهم هو هل هناك بالفعل إمكانية عملية لبتر أجزاء من الجسد السياسي؟ توضح الخبرة التاريخية والمعاصرة أن مثل هذا القرار لم ينجح في أي من الحالات التي تم اتخاذه فيها. فلا المستكشفون الأوروبيون نجحوا في استئصال الهنود الحمر بشكل كامل، ولا إسرائيل نجحت في اقتلاع العرب، ولا روسيا استطاعت محو التهديد الشيشاني، ولا إسبانيا قضت على تهديد حركة ايتا، بل إن مكونا غريبا عن الجسد السياسي المصري في مرحلة تاريخية سابقة ممثلاً في المماليك، لم ينجح نظام بقوة وبطش "محمد على باشا" في استئصاله، رغم كل ما يردده المؤرخون من انه قد قضى عليهم تماما بعد مذبحة القلعة الشهيرة، وإلا فلماذا نقرأ في نفس كتب التاريخ أن احد أسباب قيام عرابي باشا بثورته هو تمتع الضباط الشراكسة بامتيازات أكبر من أقرانهم المصريين في الجيش المصري. إن الخلافات السياسية لا يمكن التعامل معها بمنطق القبضة الغليظة، والحل يكمن في إيجاد طريقة للتعايش بين المختلفين وليس البحث عن سبل للاستئصال. أما التصعيد الإعلامي، واستخدام أوصاف الإرهاب والتشدد لعزل المخالفين فلا يحمل في ذاته حلولاً سحرية لمواجهة أزمات تحتاج إلى منطق سياسي وليس أمني لحلها.