19 سبتمبر 2025
تسجيلمعركة طوفان الأقصى التي شهدها العالم أجمع بالصوت والصورة، من المعارك النوعية المميزة في عصرنا الحديث، ولا تنتهي قصصها وأحداثها والفوائد والعظات والعبر منها. كانت من المعارك النادرة مع سرّاق الأراضي والأموال. تميزها وندرتها جاءت من قوة الصدمة على الصهاينة، الإسرائيليين منهم والغربيين، ومعهم في نفس الحاوية بعض العرب. كانت بعض تفاصيل المعركة خارج التوقعات والحسابات والتخيلات، جعلت العدو الصهيوني يصاب بصدمة لم يفق منها إلى اليوم، بل يحتاج لسنوات عديدة.. ولي حولها بعض خواطر وأفكار، أحببت أن أشارككم بها اليوم. نعلم جميعاً أن الداعم الحقيقي للعدو الصهيوني، الذي ظهر أمام الملأ بشكل مستفز ووقح هو الغرب، بمؤسساته المختلفة، السياسية منها والاقتصادية والإعلامية وغيرها. هذا الغرب نعلم أنه يتحرك بمنطق القوي في العالم، ولن نجادل في هذا الأمر. فمن يملك القوة، بغض النظر إن كان يملك معها أخلاقيات وقيما، يكون قادراً على التصرف في مساحات جغرافية واسعة من العالم وفق ما يشاء ووقت ما يشاء. هذا المنطق هو الذي دفع الغرب للتحرك وفق مقتضيات محددة عنده، لا يهمه أنها تتوافق مع غيره، حتى لو كان العالم كله على سبيل الافتراض يعمل معاً ضمن منظومة ما يسمى بالأمم المتحدة، فالواقع العملي يختلف تماماً عن النظري أو الافتراضي. الغرب يتحرك بناء على مصلحته وليس مصلحة آخرين. قوته منذ أكثر من عشرة عقود، تسمح له باتخاذ أي قرار، بل وتنفيذه باقتدار، وإن خالف به كل قيمه ونظرياته حول الحريات وحقوق الإنسان. المرجفون في الأرض أكثر ما شدني للكتابة عن بعض ما جرى وما زال يجري، هو جرأة منافقي العرب، من إعلاميين ومفكرين ومشاهير، وإصرارهم العجيب المريب في دعوتهم لجنود القسام التوقف عن مقارعة ومنازلة الصهاينة، على اعتبار قوتهم العسكرية الهائلة، وأن المعارك عبثية، تتضاعف بسببها مآسي ومحن أهل غزة ! قد تبدو للوهلة الأولى أن تلك الفئة المثبطة والمخذّلة، تنطق حقاً، وأنها نتاج حكمة ودراية حياتية. لكن مع تدقيق النظر والتمعن في أقوالهم وأفعالهم، ستجد أن دوافعهم ليست سوى صناعة نوع من الوهن والتثبيط في نفوس العامة، والتركيز بشكل خاص على فل عزائم المؤمنين الصادقين عن مواصلة جهادهم ضد عدو الله وعدوهم. وهذا سيناريو ليس بالجديد، بل هو يتكرر منذ بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ليس بالغريب إذن ما يحدث الآن من تخذيل وبث الوهن في النفوس على أصعدة كثيرة، لاسيما بعد معارك طوفان الأقصى المستمرة بصور متنوعة مع العدو. ولنا في السيرة العطرة لنبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم – القدوة والعبرة. منها أحداث غزوة أحد وما بعدها. غادرت قريش بزعمائها وفرسانها أرض المعركة، بعد الجولة الثانية والانتصار على المسلمين، على غير عادة العرب حينذاك. فقد كانت العادات الحربية تقتضي بقاء المنتصر في ميدان المعركة لأيام، يحتفل خلالها كنوع من تبليغ رسالة ترهيب لكل من وضع أو سيضع في حسبانه وحساباته الاعتداء على المنتصر. لكن القرشيين بعد السير مسافة معينة، قالوا لبعضهم البعض: لم تفعلوا شيئاً، وما أردفتم الأبكار، ولا قضيتم على محمد وأصحابه، فما صنعتم شيئاً.. قرروا إثر ذلك الرجوع إلى المدينة، من أجل أن يستأصلوا المسلمين. أو هكذا زين لهم الشيطان أعمالهم. الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالذي تغيب عنه هذه التكتيكات الحربية. إذ لم تغب شمس ذلك اليوم واستراح المسلمون ليلتها بعض الشيء، حتى نادى بالغد في كل من كان معه، أن يهيئ نفسه لمتابعة قريش وقتالهم من جديد، وردعهم من التفكير في غزو المدينة. وضرب لذلك موعداً يلتقي فيه مع قريش في موقع يقال له حمراء الأسد. وصل الخبر بصورة ما إلى أبي سفيان، قائد المشركين يومها، فدخله الخوف والروع من احتمالية خسارة النصر الظاهري الذي تحقق لهم دون تعزيزه، فما كان منه إلا أن لجأ إلى أسلوب الإشاعات والحرب النفسية لأجل التوهين من عزائم المسلمين، الذين لم تبرأ جراحهم أو تبرد أجسامهم بعد، وذلك لأجل إحداث نوع من التردد عن الخروج مع الرسول عليه الصلاة والسلام. واستخدم لذلك الغرض أناساً همهم المال، والمال فقط، كعادة المنافقين والمرجفين اليوم، ممن يتم استخدامهم لذات الأغراض، مقابل تأجير أقلامهم أو عقولهم للغير ! حسبنا الله ونعم الوكيل مرت قافلة بجيش قريش، فقال لهم أبوسفيان: أين تريدون؟ قالوا: المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلَّغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمرت القافلة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل. هكذا كان جوابهم على من أراد الفت في عضدهم، وصناعة فتنة في صفوف المسلمين. قالوا جميعاً ما قاله من ذي قبل، خليل الرحمن وإخوانه من الأنبياء الكرام في الأزمات والملمات العظيمة، ويصف القرآن هذه الحادثة بقوله تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعـوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (. نعم، لن يخيب من يلجأ إلى الله في أزماته ومشكلاته ومصائبه. حيث لم يهتم المسلمون بخبر إعداد قريش العدة لاستئصالهم هذه المرة، بل رغم ما بهم من جراحات وآلام، لم يدعوا الشيطان يفت في عضدهم ويوهن من إيمانهم وعزيمتهم، وقالوا جميعاً بصوت واحد، حسبنا الله ونعم الوكيل. إنه الشيطان - كما قال صاحب الظلال في تفسيره - الذي « يضخّم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد. والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب». المعركة بيننا والعدو لم تقف بعد إن القوة الوحيدة التي يراها المؤمنون الصادقون والتي أحق بأن تُخشى هي القوة التي تملك النفع والضر، وهي بلا شك قوة الله، لا قوة الشيطان ولا قوة أوليائه. وإن ما يقوم به المرجفون والمثبطون والمنافقون على كافة صورهم الآن، هو التشكيك في جدوى المقاومة، والنيل من قادتها ومحاولات شق الصفوف وبث الإشاعات، بالإضافة إلى تضخيم قوة العدو وتصويرها على أنها لا تُقهر، في الوقت الذي تجد نقيض ذلك في إعلام ومجتمع العدو نفسه من يشيد بقوة المقاومة وتقهقر جيشهم الذي لا يُقهر، أمام ثلة قليلة العدد والعدة والخبرة العسكرية. التشويه المتعمد الحاصل الآن للحقائق، من قبل أقلام وأفواه ومنصات عربية، على الفضائيات ووسائل التواصل الأخرى، وتحميل حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين مسؤولية ما يصيب غزة، لا شك أنه تشويه مؤثر على المزاج الشعبي العام، يدخل ضمن الحروب النفسية التي يجيدها العدو ومن معه، ولا ننكر أثر حملات التشويه تلك في خلط المفاهيم والتشويش على العامة، وهم السند الحقيقي أو الحضنة الشعبية للمقاومة، بعد الله سبحانه. لكن هل نستسلم لذلك؟ بالطبع لا خلاصة الحديث أن المعركة بيننا وعدو الأمة لم تنته بعد، ولن تنتهي قريباً. فإن توقفت عسكرياً بعد حين من الوقت، فإنها ستستمر إعلامياً وسياسياً واقتصاديا، بل يجب أن تستمر كل تلك المعارك، لاسيما المعركة الإعلامية أو معركة الوعي، التي تتطلب صبراً وحكمة في التعامل مع المعطيات المختلفة، حتى تؤتي أكلها. ولذلك مطلوب من كل من لديه ذرة إيمان ألا يقف موقف المتفرج أو المشكك في جدوى المقاومة، فتاريخنا مليء بالنماذج لعرضها وأخذ العظة والعبرة منها. إن صمود المماليك في مصر أمام جحافل المغول والتصدي لهم، رغم التفاوت الكبير في العدد والعدة، درس في أهمية الثبات والوعي بنفسية وطريقة تفكير العدو. فالعدو الصهيوني ليس بأشرس من المغول، والمقاومة الإسلامية ليست بأضعف همة وإيماناً من همة وإيمان قطز وجنوده، رحمهم الله. التذكير بتلك الوقائع والنماذج، وسط هذا الركام البشع من الأراجيف والإشاعات العربية قبل الغربية عن المقاومة وجدواها، لا شك أنه باعث على الصمود واليقين بنصر من الله قادم. أضف إلى ذلك أنه سبحانه دوماً وأبداً بكل جميل كفيل، فهو بذلك حسبنا ونعم الوكيل.