18 سبتمبر 2025

تسجيل

هانيبال والتنشئة الاجتماعية!

19 أكتوبر 2021

أفضل ما يبقى لدينا من ذاكرة نستخرجها معنا من المكان والزمان وكل الأشياء، هي ما ستكون لنا جوهراً يبرق في ضمائرنا كلما تقدمنا في العمر ومررنا في تجارب لا يسعنا من خلالها إلا أن ننظر لذلك البريق الذي يبقينا يقظين على دورة حياة ودروس نتعلمها في اللحظة ونستيقن عبرتها من بريق ذكريات سابقة. عملية تراكمية ولن تكون حبيسة الموقف، إنما عبرتها ستكون لما بعد ذلك الموقف. وعلى الرغم من أن هذه المقدمة تعتبر رومانسية نوعاً ما، إلا أنها فعلياً كانت مقدمة استحضرت من خلالها مثلا للممثل أنطوني هوبكنس في أحد سلسلة أفلامه هانيبال، عندما كان يؤكد للذي أمامه بأنه لديه عيون ولكنه لا يرى. ولا أستذكر تماماً الموقف الذي عبر من خلاله الممثل عن هذا المثل بالتحديد، إلا أن هذه الجملة أضيفت لذاكرتي وكأنها أصبحت جزءاً من أرشيف داخلي، متيقنة بأني سأعود إليها عندما يستحضرني موقت يتطلب استقدام هذا المثل. ظل المثل يتكرر في كثير من المواقف. فعلياً نحن لا نرى، حتى لو لدينا الحاسة التي تساعدنا على الرؤية. ويحزنني أن أعبر عن هذا المثل اليوم وخاصة لمفهوم التنشئة الاجتماعية الذي لطالما كان موضوعاً عاماً في المؤسسات التعليمية والأسرية، وظل حبيس الدروس العامة ولم يخرج عن السياق الرسمي كي يتبنى طبيعة مجتمع يحتاج إلى التأقلم والتكيف، بل ويحتاج إلى المرونة في النمطية الفكرية والسياق الاجتماعي الذي بات متحجراً وحبيس كبت نفسي متراكم. ووجب أن أنوه على أني لا أعمم حديثي لمجتمع بأكمله من خلال هذا المقال ولا أخصص تعبيري عن أسر معينة. إنما سأحدد المنظور بشكل عام على تبعات التنشئة الاجتماعية الضيقة على جزء من المجتمع نفسه. ولنقف لوهلة حول التعريف العام للتنشئة الاجتماعية، فهي بالتأكيد ستؤشر في الشرح على أن مسؤولية التنشئة لا تكمن في مؤسسة واحدة، ولا تتكل حتى على نواة أسرية واحدة، إنما هي مسؤولية تتطلب من خلالها بناء وتشكيل شخصيات في المجتمع تنعكس على الداخل في الأسرة وستبرز كصورة مثالية للخارج للمجتمع، فهذه عملية تكاملية تتطلب مظلات مؤسسية، مجتمع، وأسرية. فهي سياق يحدد التصرفات والسلوكيات الأخلاقية منها واللا- أخلاقية حتى. هي مسار تتحدد بناءً على تنشئة وفرت آليات الإشباع الذاتي للفرد ودعمه نحو تحقيق احتياجاته الخاصة وطموحاته التي لن تستقر داخل نواة الأسرة، وإنما ستتطلب الظهور والتعبير والانعكاس على الوسط الاجتماعي بشكل عام. وهذا تصور مثالي عام للمفهوم. ولكن ما لا نراه فعلياً عبر هذا التعريف هي مسألة التفرد، وأركز على هذه الكلمة التي من الصعب أن يراها السياق الاجتماعي والعرفي ككلمة تحمل الأخلاق، بل قد يراها المجتمع على أنها اللا-أخلاقيات واللا-سلوكيات والتمرد والغضب والتنمر والهجر والتشتت والانفعال، وكل تلك الأشياء التي لن يراها المجتمع بأنها ضريبة تراكمية من تنشئة اجتماعية كونت هذا الفرد المنفعل. المجتمع لن يرى بأن ضريبة سلوكياته التربوية قد تنعكس بشكل تراكمي لاحقاً على فرد يصارع بين جدران عالية ويصرخ في غرف موصدة. وليس ذلك بالأمر السهل على المجتمع أن يتقبله أو حتى أن يراه بسهولة، بل المجتمع نفسه قد يكون نتيجة صدمات عاطفية سابقة كونت له مفهوماً للتنشئة الاجتماعية بناء على معاناة وليست بناء على تربية يساهم من خلالها في خلق إنسان متوازن وقادر على المشاركة والتعامل بوعي وبنمط سلوكي أخلاقي داخل وخارج المجتمع. أو على الأقل يظن من في هذا المجتمع بالتحديد بأنه خلق وربى إنساناً بهذا المنظور ولا يدرك بأن هذه التربية كانت تباعاً لظروف صعبة وصدمات عاطفية قديمة ونمط التقليدي محدود. والأصح أن لا ننظر لمفهوم التنشئة الاجتماعية العام، وإنما علينا أن نرى العمق في المفهوم والتركيز على الفردية التي تنتظر منها الدور المطلوب من حيث التصالح مع النفس ومع الآخرين، بل أن تكون آلية التنشئة الاجتماعية بقصد التطبيع الاجتماعي وليس بقصد تفويض آليات الثواب والعقاب، أو التقليد حتى الذي قد تنشئ من خلالها فرداً مشتتاً. وليس بمستبعد أن تحدث هذه التبعات نتيجة استنكار حاجة المجتمع ليستيقن قدرات الفرد على العيش من خلال مواجهته للمعوقات تحت مظلات الرعاية والاحتضان والاحتواء والإرشاد والدعم، والعلاج، والتيقن حتى بأن النمطية السلوكية الاجتماعية وتحسين حال الفرد يعتبر جزءا مهماً جداً من عملية التنشئة التي تحمي الفرد من العزلة والانطواء وكل ما سبق من ردود أفعال عشوائية وانفعالية ستكون نتيجة كل ما سبق وما يسبقه من تراكمات اجتماعية قديمة. [email protected]