11 سبتمبر 2025

تسجيل

الهجرة حدث غيّر مجرى التاريخ

19 أكتوبر 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); لم يكن حدث الهجرة من الأحداث العادية التي تطوى في سطور الكتب أو تنسى في خضم الأحداث، فيأتي على ذكرها الزمان ويطويها النسيان, ولكنه حدث غير مجرى التاريخ ومثل تحولا هائلا ونوعيا في كل مجالات الدعوة الإسلامية, وكان تتويجا لتضحيات وصبر النبي (ص) وأصحابه الطيبين الذين أعطوا الإسلام عرقهم ودموعهم, فأوذوا وعذبوا وصبروا وصابروا حتى جاء أمر الله وأذن لهم بالهجرة.بالهجرة قامت الدولة بعد أن أقيم المسجد وعقدت المعاهدات وتوالت التشريعات وتوالت الانتصارات وتكونت الأمة, فتماسك النسيج الاجتماعي وتوحدت القبائل العربية وبددت شمس الإسلام الظلام الدامس الذي غطى العالم فتهاوت الإمبراطوريات ومن الجزيرة العربية خرجت القيم والمبادئ والمنظومات المعرفية التي تنحاز إلى جانب الإنسان ضد كل أشكال القهر والاستغلال والاسترقاق البدني والروحي والنفسي والعقلي, وبالهجرة حمل العقل العربي المتفتح والشجاع هذا كله ليكون بشرى وخلاصا لكل المظلومين والمستضعفين في الأرض. وبالهجرة انطلقت مواكب الفاتحين بأعظم رسالة وبأكمل دين يحث سيرها ويدفع تقدمها نحو بلوغ غاياتها قوة لا تعرف الضعف وعزم لا يعرف الفتور وإيمان بالنصر يسكن في القلوب وحركة لا تعرف النكوص. بالهجرة أصبحت يثرب المدينة المنورة, وقاعدة الإسلام الأولى وعاصمة الدولة, وسرى في أجوائها من ذلك الزمان وإلى أن تقوم الساعة عبق النبوة, وعبق أنفاس الرسول الكريم (ص) ليكون لأهلها ولزوارها سكينة واطمئنانا وأمنا, وسلاما قائما ورحمة, فسرى حبها في كل قلب وتطلع كل مسلم إلى الإقامة فيها والموت على ترابها. وكيف لا وقد دعا لها النبي (ص) فقال:"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد, اللهم وصححها. وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها واجعلها بالجحفة".. وعن أنس رضي الله قال: قال رسول الله (ص) "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة".. الهجرة يوم من أيام الله تعالى التي ينبغي أن نتوقف عندها فنتدارسها ونعلم دروسها لأبنائنا فالأمم التي تنسى تاريخها تذوب في غيرها وتعاني من العقد وربنا تبارك وتعالى يأمرنا بذلك "وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ".. (ابراهيم5).. قال الإمام الألوسي في تفسيره: "{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} أي: بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق ومثلما فرح الصحابة بالهجرة نفرح. في ذكرى الهجرة دروس وعبر ينبغي أن تظل ماثلة في ذاكرة الأجيال, فالنبي (ص) أخذ بكل الأسباب, وخطط ونظم ونفذ وتابع بدقة بالغة وبحذر شديد ولم يقف بطش مكة به وبأصحابه حائلا بينه وبين رد الودائع إلى أصحابها فعهد بها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك الفارس الشجاع النبيل الذي نام في فراشه غير مكترث بالموت.لقد شرع رسول الله (ص) بالهجرة بسرية كاملة وبكتمان شديد, فتوجه إلى دار أبي بكر الصديق بالهاجرة ( أو عند الظهيرة) حيث يأوي الناس إلى بيوتهم في القيلولة واجتمع به منفردا قائلا له (أخرج عني من عندك, فقال: يارسول الله, إنما هما ابنتاي, وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي, !فقال: "إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة"، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله, قال: الصحبة.. وعندها ظل أبو بكر يبكي من الفرح كما تروي ابنته أسماء كما لم يبك من قبل. كان حب أبي بكر لرسول الله (ص) حبا لا يحد ولا يبارى ولا يبز, أحبه أكثر من نفسه ومن أهله ومن الناس أجمعين وقد بينت الهجرة مدى ما كان يكنه للنبي (ص) من حب, فعندما انتهيا إلى الغار ليلا, خشي على النبي (ص) فدخله قبل النبي (ص) لينظر أفيه سبع أو حية ليفتدي النبي (ص) بنفسه. وفي الغار أوشك أبو جهل ومن معه من مشركي قريش أن يمسكوا بهما فحزن أبو بكر وبكى وقال همسا للنبي (ص): والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره, فقال له رسول الله (ص): لا تحزن. إن الله معنا. أيد الله رسوله (ص) في هجرته بجنود لم يبصرهم الناس كما قال تعالى في سورة التوبة: ((إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)).. لم يدع أبو بكر لأهله مالا وتروي أسماء أن جدها أبا قحافة دخل عليهم وقد ذهب بصره فقال "والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت: فأخذت أحجارا, فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها, ثم وضعت عليها ثوبا, ثم أخذت بيده, فقلت: يا أبت, ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه, فقال: لابأس, إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن, وفي هذا بلاغ لكم.أعد النبي (ص) وصاحبه كل شيء إعدادا محكما فكان عبدالله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به, وما يقولون في شأن رسول الله (ص) وأبي بكر, ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر, وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه يرعى في رعيان أهل مكة, فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر, فاحتلبا وذبحا, فإذا عبدالله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة, اتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه, حتى إذا مضت الثلاث, وسكن عنهما الناس, أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له, وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما, ونسيت أن تجعل لها عصاما, فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فلم تجد فشقت نطاقها باثنين, فعلقت السفرة بواحد, وانتطقت بالآخر. ولذلك سميت بذات النطاقين. ولما همّا بالمسير قدم أبوبكر الصديق للنبي (ص) أفضل الراحلتين, ثم قال اركب, فداك أبي وأمي! فقال النبي (ص) "إني لا أركب بعيرا ليس لي", قال: هي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي, قال: لا, ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ "قال: كذا وكذا, قال: "قد أخذتها به, قال: هي لك يا رسول الله فركبا وانطلقا. وفي الطريق كان أبو بكر الصديق من شدة حبه للنبي (ص) يمشي أمامه مرة وعن يمينه مرة وعن يساره مرة يخشى عليه، وإذا نام النبي (ص) ظل مستيقظا يحرسه وإذا حلب شاة صب على اللبن من الماء حتى يبرد أسفله ثم ينتظر النبي (ص) حتى يفيق فيقدمه له. إذن في الهجرة صحبة تخلت عن الأهل والمال والولد قدمت حب الله ورسوله على الدنيا ومتاعها وما أحوجنا أن نقتدي بهذا النموذج الإنساني الفريد.كان صلى الله عليه وسلم حاضرا في عصره مستوعبا لأدواته مدركا أن نصر الله لا يأتي إلا لمن يبذل ويعطي ويعمل ويأخذ بالأسباب فمن يعمل خيرا يجز به ومن يعمل سوءا يجز به وأنه ليس بالأماني العذاب وحدها تدرك الغايات, وتنهض الأمم, وتقام الأمجاد وإنما بالجهد والعرق والأخذ بالأسباب وبالتخطيط والتنظيم القائم على قراءة مفردات الواقع وإدراك علاقاته وقوانينه كما فعل النبي (ص) في هجرته .