13 سبتمبر 2025

تسجيل

معارك المثقفين

19 سبتمبر 2023

يخطئ من يظن أنه عند الحديث عن معارك المثقفين، فإننا نتوقف عند العراك الذي ينشب بين البعض، إما لسرقات أدبية، تخرج عن سياقها إلى سياقات أخرى غير ثقافية، أو لضجيج يثار حول مواقع التواصل الاجتماعي بين البعض، يصل إلى التلاسن والتراشق، في حالة لا تلامس الثقافة، ولا تواكب الإبداع في شيء. غير أننا نتوقف هنا، عند تلك السجالات الأدبية، والنقاشات الهادفة، حول قضايا الشأن الثقافي، التي تُستخدم فيها بلاغة الأسلوب بأجزل العبارات، وأعمق الجمل، لإثارة النقاش حيالها، ما يجعله سجالًا راقيًا، يرتقي بالفكر، ويسهم في تنمية الوعي، تحقيقًا للتطور الثقافي المنشود. ولا يمكن أن يتأتى ذلك، إلا من خلال بيئة حاضنة للإبداع، ونشوء حركة نقدية، تتجاوز شخوص أصحابها، إلى حركة فاعلة ومتطورة، يكون سلاحها الإبداع، ووسيلتها منابر تدرك أهمية ما يثار من قضايا، وصولاً إلى الفئة المستهدفة، وهو المتلقي، فتنير عقله، وتخاطب وجدانه، وتثري وعيه. إلا أنه، عندما تتوارى النقاشات الثقافية المعمقة، فإنه حريّ بالراصد لهذه الحالة النظر إلى طبيعة الحراك الأدبي، والتوقف عند واقعه. ولعلنا هنا، نتذكر مقولة «أديب نوبل»، الراحل نجيب محفوظ، عند تفسيره لأفول النقاش حول القضايا الثقافية، عندما أرجع ذلك إلى «تلك الفجوة الكبيرة بين الأدباء والمفكرين وبين القارئ، لأنه قاعدة المثلث، وإذا اختفت القاعدة لم يكن هناك مثلث، والقارئ بدوره لم يعد يتفاعل مع ما يُكتب». ونستحضر من التاريخ، ذلك الملمح الأدبي في سوق عكاظ ، والذي كان شاهدًا على بلاغة القصائد التي كانت تشهد عراكًا شعريًا بين أصحابها، فتثير غيرهم، وينظمون قصائد على غرارها، حتى أصبح السوق أنموذجًا في القصائد الشعرية. ومن بين المعارك الثقافية، التي ما زالت ماثلة للعيان، معركة التجديد في الشعر العربي، التي قادها محمود سامي البارودي، علاوة على تلك المعارك الشهيرة، والتي كان عميد الأدب العربي، طه حسين محورًا في الكثير منها، على نحو معاركه مع كل من مصطفى صادق الرافعى، وزكي مبارك، وأحمد أمين، وعباس محمود العقاد. بل إن نجيب محفوظ نفسه، والذي توقف عند أسباب خفوت المعارك الثقافية، كان طرفًا في معركة أدبية مع عباس العقاد، علاوة على تلك المعركة الأدبية حول الشعر الحر بين نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وهي المعركة التي استقطبت إليها نفرًا من الشعراء. والملمح الذي يُستفاد من كل تلك المعارك، ذلك الأسلوب الأدبي الذي كان يتكئ عليه كل طرف، وتلك الحجة القوية التي كان يتم الاعتماد عليها، ما شَكَّل لكل طرف جمهورًا يُشار إليه بالبنان، وهو ما أثرى المناخ الثقافي حينها، فخرجت على إثره الكثير من الدراسات النقدية، والأطروحات الأكاديمية، فتشكلت بذلك مدارس أدبية، خرجت من رحمها فنون إبداعية، ما زالت مرجعًا إلى اليوم لكل الباحثين عن معارك الوعي والإبداع.