17 سبتمبر 2025
تسجيليعتقد العديد من المحللين أن الذي جرى في تونس يوم 14 يناير 2014، لم يكن ثورة، بل هو أقرب إلى «الحالة الثورية» القابلة للتطور والانتكاس، منه إلى الثورة الكبرى التي تفكك بنية النظام القديم بكل مؤسساته، كالثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية، وتبني على أنقاضه نظام ديمقراطي جديد. ومع ذلك،فقد أسقطت الثورة التونسية رأس النظام الديكتاتوري السابق، وحرّرت الشعب التونسي من كابوس الخوف، كما استعاد التونسيون حقهم في تملك الفضاء السياسي العام، فأفرغت السجون من المحكومين السياسيين بمن فيهم الإرهابيون، وعاد المهجرون من منفاهم، وتكرست حرية التعبير وتوافرت مساحات للحرية عبر وسائل الإعلام. بعد أن تعرضت الثورة التونسية ٌلأخطار محددة، أهمها استشراس العنف السياسي، واستهداف المعارضين من قبل الإرهاب التكفيري، شهدت نوعاً من الارتداد والنكوص بفعل استمرار ممارسات تقليدية من جانب الترويكا الحاكمة، فتعثر بناء النظام الديمقراطي الجديد، بسبب العوامل التالية: 1ـ تشبث ائتلاف الترويكا بزعامة حركة النهضة بالسلطة، التي باتت تمارس الاستبداد والفساد والمحافظة على امتيازاتها.2-غياب البديل الثوري للنظام الديكتاتوري السابق، وعدم توافق الجماهير والقوى الوطنية والديمقراطية، والتئامها في كتلة تاريخية على قاعدة الديمقراطية.3ـ دور القوى الدولية الكبرى والدول الخليجية الحامية للترويكا الحاكمة،في عدم تجذر الثورة التونسية نحو الديمقراطية.4ـ عدم التوافق القوى التونسية على نظام ديمقراطي بديل، وعجز القوى التي شاركت في الثورة عن التوصل إلى أهداف وطنية جامعة. رغم أن «الثورة التونسية» كانت المفجرة لما يسمى «الربيع العربي»، فإن هذا الأخير أخفق في بناء دول ديمقراطية في البلدان العربية التي سقطت فيها الأنظمة الديكتاتورية، فاختفت التحركات الشعبية، وفعاليات تكوينات المجتمع المدني الحديث، والأحزاب السياسية،وحلّت مكانها التنظيمات الإرهابية الأصولية بوصفها أدوات تنفذ المخطط الإمبريالي الغربي- الصهيوني، والذي يستهدف تفتيت البلدان العربية وتقسيمها وخلق دويلات طائفية، في العراق وسوريا، واليمن،وليبيا، وربما تونس ومصر، ليسلم الكيان الصهيوني ويعطي مبرراً ليكون دولة لليهود. لقد كان الخطاب الديمقراطي في تونس ضبابياً وملتبساً في مقولاته، فالأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية لم تركز على طرح أفكار الحرية الدستورية، والعلمانية، والمساواة المواطنية، وحقوق الإنسان والمرأة، حتى لا يسع المرء الا أن يتساءل: ما هي تلك الديمقراطية التي تتحدث عنها الطبقة السياسية التونسية والأحزاب السياسية، ما جوهرها وأسسها ومراميها، وكيف يمكن أن تجمع تحت لوائها كل تلك المتناقضات الايديولوجية والسياسية وكل تلك التوجهات المتنافرة في الأهداف والغايات والمصالح؟ هل يكفي أن يؤمن الجميع بالانتقال السلمي إلى نظام ديمقراطي ولو غير محدد الأهداف والأسس؟ وهل سيلبي هذا النظام حاجات وتطلعات هؤلاء دون الإخلال بالأمن السياسي أو الاجتماعي أو بمصالح كل فريق من الفرقاء؟ كيف ستتأمن في نظام جامع مصالح الأغنياء والفقراء والطوائف والمؤمنين بحقوق الإنسان والمرأة وأولئك الذين لا يعترفون بكل هذه الحقوق؟ تونس تدخل في مرحلة جديدة من خلال الاستحقاق الانتخابي الذي سيجرى يوم 26 أكتوبر المقبل، بعد أن عاشت أكثر من ثلاث سنوات في حالة من الفوضى،حيث اعتقد الإسلام السياسي أن الدولة المدنية والعلمانية والحداثة كمسار حضاري اختارته تونس منذ الاستقلال، فشلت عربياً مقابل الصعود الديني الأصولي، وتفشي الراديكالية الإسلاموية. غير أن الإسلام السياسي الذي اصطدم بقوة شخصية المجتمع المدني الذي دافع ببسالة قل نظيرها من أجل المحافظة على نموذج المجتمع التونسي المنفتح والليبرالي، يتجاهل بشكل واعي: أولاً، أن الدين في تونس ومنذ بدايات حركات الإصلاح التي شهدتها البلاد التونسية في عهد خير الدين باشا،وعلى مدى قرن ونصف القرن انسحب تقريباً من اشتباكاته بمساحات مختلفة من الحياة: التعليم والقانون والتنظيم الاجتماعي والثقافة والسياسة والنماذج المعرفية، مخلياً الطريق للقانون المدني والمدنية والدولة والمؤسسات التعليمية الخاصة؛ ثانياً، منذ بداية بناء الدولة الوطنية الحديثة فجر الاستقلال تراجع الدين إلى الهوامش رغم وجود الحضور الرمزي الرسمي، كما أن وجوده الرسمي قد تمّ قيادته تحت نطاق السيطرة البيروقراطية للدولة، التي في الكثير من الحالات قد تعلمنت؛ ثالثاً، تقلص الخطاب الإصلاحي الإسلامي، وتخبط عمليات الإصلاح السياسي، وتغذية قنوات التطرف، والتفكك الاجتماعي، والركود في مهمة تحديث الدولة التونسية في عهد النظام الديكتاتوري السابق، كل هذه العوامل وغيرها، دفعت الأصولية الإسلامية بالانتقال من المهمش إلى المركز بصرف النظر عن المجتمع التونسي المحدث أو المعلمن. الترويكا التي حكمت تونس طيلة السنوات الثلاث الماضية، وفي القلب منها حركة النهضة، كانت تفتقر إلى الشرعية الثورية، حتى وإن اكتسبت الشرعية الانتخابية في انتخابات 23 أكتوبر 2011،ولهذا اتسمت مرحلة حكمها بالضعف الشديد، ضعف مصدره الافتقار الواضح إلى مشروع مجتمعي يلبي أهداف الثورة التونسية في بناء دولة ديمقراطية تعددية، وتحقيق التنمية المستدامة التي قوامها التوزيع العادل لثمار التنمية، وبناء نموذج اقتصادي يحقق التوازن في التنمية بين المناطق المتقدمة تاريخيا في تونس، والمناطق المحرومة والمهمشة والفقيرة طيلة أكثر من نصف قرن، والتي تنتمي إلى تونس العميقة، ولاهي ضمنت الحريات العامة والخاصة، بل في عهدها تغول الإرهاب، ولا هي احترمت أو استطاعت التعامل مع النموذج المجتمعي التونسي القائم على التعددية الاجتماعية والثقافية، والانفتاح على الحداثة الغربية بكل منطوياتها الفكرية والسياسية والقيمية. يقتضي الخروج الآمن للشعب التونسي، وللوطن التونسي، من مرحلة تغول الإسلام السياسي المترافق مع استيطان الإرهاب التكفيري، وكلاهما ركبا موجة الثورة التونسية السلمية، وصادراها،أن يكون الشعب التونسي حاضراً بقوة في هذه المحطة التاريخية ألا وهي الانتخابات المقبلة (26 أكتوبر 2014)، والتي من المفترض أن تؤسس للمرحلة الجديدة، بتأسيس «العقدالاجتماعي » الجديد للدولة الوطنية المتوافق عليه بين الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية، والذي يقوم على مبدأ الفصل بين السُلط و على مبادئ المواطنة والحريات والحقوق، ومجمّل ما يقع في نطاق منظومة الدولة الوطنية الحديثة (= دولة الحق والقانون) من قواعد حاكمة للاجتماع السياسي،بعد أن أخرجت حركة النهضة طيلة السنوات الثلاث الماضية الدولة الوطنية التونسية عن معناها ككيان جمعي للشعب التونسي (أو الأمة) والوطن، فحوّتلها إلى مجرد سلطة في يد فريق سياسي حزبي يسخّرها لمصلحته. وهو، بهذا المقياس، وضع ما لا حصر له من المشكلات والحوائل دون تقدّمها، ودون تقدّم المجتمع المجتمع التونسي واستقراره. لقد دفع الشعب التونسي غرامات باهظة في سبيل إنجاز ثورته، ومن أجل تحقيق أهدافها الإستراتيجية، لاسيَّما بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو في هذه المحطة الانتخابية المقبلة يريد أن يبني دولته الوطنية الديمقراطية ويبعثها من تحت رماد الحرائق، ويتحرر من مرحلة اللادولة العجفاء في عصر الإسلام السياسي، والتي دمرت المجتمع التونسي وشوهت تكوينه. في الثورة التونسية، لم يكن ثمة اجماع على المبادئ المؤسسة للديمقراطية، واولها قبول الآخر المختلف، في حين أن ما جري على الأرض ارتداد إلى أصوليات ظلامية وإرهابية نافية لأبسط المبادئ الليبرالية ومسلماتها. أن تصور اندراج التيارات الأصولية في التغيير الديمقراطي ليس الا وهماً، لأنها تمتلك رؤية إلى المجتمع من منظور شمولي تلغي التناقض والاختلاف، وقد انساقت إليها في أزمان مختلفة التيارات الاشتراكية والقومية كما هو جارٍ الآن مع التيارات الأصولية الإسلامية.