16 سبتمبر 2025
تسجيللست أنا من ابتكر هذا العنوان، لقد قرأت مقالا للكاتب جل ليبور في موقع Chronicle of Higher Education يتحدث فيه عن ظاهرة اختفاء المثقفين، أو كما أطلق عليهم مثقفو الشعب، وهم الكتاب الذين يخاطبون جمهور الناس. ولو سألتكم السؤال التالي: متى قرأتم بحثا أو مقالا علميا لأكاديمي؟ لن يجد الكثير منك جوابا سريعا، بل إن الغالب أنكم لم تقرأوا شيئا مثل هذا منذ فترة طويلة، فما السبب إذن؟ يقول الكاتب إن هناك عدة أسباب لذلك، ولكن السبب الرئيس هو أن النظام الأكاديمي يحصر نشاط الأساتذة في الجامعة ونشراتها العلمية، والسبب الآخر هو أنهم يكتبون مجانا من دون توقع مردود مادي، ولهذا السبب – وأنا مازلت أنقل عن الكاتب – فإن مثقفو الشعب الآن هم الصحفيون لأنهم يكتبون نظير مبلغ مالي. دعوني أذكركم هنا بأن الكاتب يتحدث عن الجامعات الأمريكية وليست العربية، أي عن الجامعات التي تقع في وسط الأحياء السكنية من دون بوابات حراسة والتي تكون مكتباتها مفتوحة للعامة والتي على تواصل مباشر بالمجتمع ومتطلباته، فما الذي سيقوله عن جامعاتنا العربية إذن؟ عندما كنت أدرس في جامعة أمريكية تقع في شمال ولاية نيويورك جمعنا أحد الأساتذة في قاعة كبيرة وطلب منا أن نختار مادة مطلوبة في كلية الهندسة، وطرح علينا عدة خيارات أذكر منها: أن نساهم في تصميم رأس حربي صاروخي في مشروع تابع لوزارة الدفاع الأمريكية، ولكن الشرط الوحيد للمشاركة في هذا المشروع أن يكون الطالب أمريكيا. أما الاختيار الثاني فكان أن نعيد تصميم أجهزة أحد مصانع الزجاج التي تقع في الولاية والتي تعاني من مشكلة الصدأ الدائم بها بعد أن يغمس الزجاج في أحواض الأسيد. لم تكن الاختيارات الأخرى بعيدة عن حل مشكلة ما في أحد المصانع، أو تصميم جهاز ما، لقد توزع الطلبة على هذه الاختيارات بناء على رغباتهم، وفي نهاية العام نشرت الصحيفة الجامعية نتائج أبحاث الطلبة ومدى نجاحهم أو إخفاقهم فيها. لم تكن كليتنا هي الوحيدة في هذا الأمر، فقد كانت كلية الحاسوب تقوم بعمل برامج سواء للحكومة الفيدرالية أو المحلية أو الشركات وكذا الحال مع كلية الإدارة والكهرباء، فالجامعة كانت مصدر للبحث والمعلومات وإيجاد الحلول للمؤسسات الاقتصادية والأمنية والدفاعية، فهي داخلة في نسيج المجتمع ومساهمة في تطويره ودفع عجلته. في تلك القاعة بالذات شعرت بوجود هذا الحبل السري الذي يربط الجامعة ببقية مؤسسات الدولة، فالجامعة توفر العقول الشابة الطموحة التي تستثمر إمكاناتها لإيجاد حلول للمشكلات التي تطرأ على هذه المؤسسات، وهذه المؤسسات تجد في الجامعة مخزونا رائعا من العقول التي تفكر في مشاكلها وتعيد تصميم عملها ليكون أفضل مما هو عليه، فالجميع في حالة تبادل للخبرات والمعلومات والأموال، أنه خط سريع يغذي الطرفين بما يحتاجانه. لدينا في قطر هذا العدد الكبير من الجامعات وفي جميع فروع المعرفة، ولكننا لا نرى نتاجا لها، فلا هي تقوم بأبحاث تهم المجتمع ولا مؤسسات الدولة تطلب منها ذلك، إننا نعاني من الكثير من الأزمات التي تتوجب أن تتدخل المؤسسات الأكاديمية لحلها، مثل الازدحام المروري وتكرار تعطل البنى التحتية وتصميم المدن والأحياء والطرق والتركيبة السكانية بكل تعقيداتها والتنسيق بين اجهزة الدولة.. الخ. ان مسألة استغلال الطاقات الأكاديمية المتوفرة واستخدام الجامعات في دراسة المشاكل وإيجاد حلول لها ليست مسألة رفاهية بل هي ضرورة قصوى، فإن كانت العقول الأكاديمية لا تساهم في تنمية المجتمع فلماذا هي موجودة إذن؟ هل لتدريس النظريات غير قابلة التطبيق للطلبة فقط؟ علينا أن نتذكر أن اغلب الأفكار لناجحة في عالمنا الآن هي من نتاج عقول طلبة الجامعة ابتداء من مايكروسوفت وانتهاء بالفيس بوك وحتى تلك الابتكارات التي نستخدمها من دون أن نسأل عن من صممها. يعتمد الناس عادة على البحث عن أسهل الطرق لحل مشاكلهم متناسين أن التفكير في حل المشاكل هو استثمار في العقل ونشر للوعي، فيجب أن تكف المؤسسات الحكومة عن الاعتماد بشكل كبير على شركات الاستشارات أو شراء الحلول من الخارج والبدء في التواصل مع الجامعات لتفعيل أسلوب البحث العلمي فيها، أن تفعيل هذا الأمر يتطلب إصدار تشريع ينص على الاستعانة بالجامعات وإشراك الطلبة في إيجاد الحلول لمشاكل المجتمع، فهم المخزون العقلي للأمة ولكنه مخزون ينضب إن لم يتم استغلاله بشكل جيد.