15 سبتمبر 2025
تسجيلاجتمعت في أزمة الفيلم المسيء كافة العناصر اللازمة لتأكيد نظرية المؤامرة، بما يعني أن الموضوع وما تبعه من ردود أفعال كانوا مخططين من قبل. أما الأطراف المتآمرة فهي كثيرة فهناك عناصر أقباط المهجر ممن يسوءهم استقرار الملف الطائفي في مصر، ويستهدفون الإبقاء على قضيتهم حاضرة في ملفات وزارة الخارجية الأمريكية تحت عناوين الاضطهاد والتمييز الديني. وهناك المحافظون الجدد الذين يرون في مسلك الإدارة الأمريكية الانسحابي ضربة لمشروعهم الرامي إلى تأكيد الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، وهناك إسرائيل التي تخشى أن تقدم راعيتها الكبرى، بعد أن فقدت حلفاءها التقليديين من أنظمة الاستبداد العربي، على التعامل مع الديمقراطيات الإسلامية الناشئة، ولذا فإن تفجير الوضع واستحضار روح العداوة القديمة يفيدها أكثر من أي أحد لكي تحتفظ بموقعها كحليف إقليمي وحيد. ولكن حتى لو كانت هذه الأزمة بالفعل هي مؤامرة مكتملة الأركان، فإن هذا لا يعفي المحتجين المسلمين من المسؤولية عن التردي في مستوى تعاطيهم معها، الأمر الذي كشف عن عدد من الأزمات المرتبطة بحركة الشارع الإسلامي والتي نعرض لبعضها فيما يلي. أول ما أظهرته هذه الأزمة أن كثيرا من المسلمين مازالوا يعانون من داء "القابلية للاستفزاز". هذه القابلية تعطي للآخر المتآمر فرصة ذهبية لكي يحرك الشارع الإسلامي في الوقت وفي الاتجاه الذي يريد. فعندما قرر الآخرون استثارة المسلمين في ذكرى أحداث سبتمبر لم يفعلوا أكثر من إنتاج فيلم رخيص ورديء للحصول على ردة الفعل المطلوبة، وهكذا وبسهولة شديدة تم استدراج المسلمين عبر العالم إلى غضب عارم وعنف غير مسؤول. هذه القابلية للاستفزاز تثير مشكلة كبيرة، فهي تمثل قنبلة موقوتة لا يعلم أحد في وجه من بالضبط يمكن أن تنفجر، خاصة أن أساليب الاستفزاز لا تنتهي، ومتطرفو الغرب يمتلكون أدوات كثيرة للإساءة للإسلام. وإذا ما تكرر نفس هذا الانفعال في كل مرة فإننا سنكون إزاء آلية جاهزة يمكن للمتطرفين استدعاؤها للحصول على ردة فعل فوضوية يوظفونها في الوقت وبالطريقة التي يريدونها. أظهرت هذه الأزمة أيضا أن كثيرا من المسلمين يدمنون الوقوف في موقف رد الفعل الأبدي، ولا يتحركون إلى الأمام إلا قليلا، وإلا فما الذي تغير منذ أزمة الرسوم الدانمركية، غضب يشتعل وسفارات تحترق، ثم تهدأ النفوس من دون أن يتغير شيء على أرض الواقع. بل إن من يحاولون تغيير الواقع من خلال مطالبة الولايات المتحدة أن تعامل المسلمين كما تعامل اليهود فيما يتعلق بتجريم معاداة السامية، لا يبذلون ما بذله اليهود من جهد منظم وضغط سياسي واقتصادي وإعلامي من أجل تحقيق هذه النتيجة. وهذا وإن كان يتعلق في جزء منه بتحيز الإدارة الأمريكية لصالح اليهود، فإنه يتعلق في جزئه الآخر بانصراف الجاليات المسلمة في الغرب والحكومات الإسلامية في الشرق عن ممارسة ضغوط على صانع القرار الأمريكي لاستصدار مثل هذه التشريعات المجرمة للكراهية. أظهرت الأزمة أيضا أنه رغم اختلاف النوايا والمنطلقات إلا أنه من الوارد أن يحدث تحالف موضوعي بين الإسلاميين من جانب وبين المتطرفين في الغرب من جانب، فقد حرص الطرفان على تصعيد الأزمة، كل لأسبابه الخاصة. فمتطرفو الغرب يفيدهم أن يؤكدوا فكرة أن المسلمين يميلون للعنف والتطرف وليس لديهم القدرة على التعايش السلمي، أما في العالم الإسلامي فإن فكرة استحضار الصدام مع الغرب بكونه متآمرا أزليا وسببا في كل الشرور المعاصرة لها أنصارها أيضاً، فهي فكرة تحقق نوعا من التماسك الداخلي إزاء عدو واضح. ولهذا كان منطق كثير من الإسلاميين أنه حتى إذا كان دور الإدارة الأمريكية في الأزمة الأخيرة ضعيفا وشبه منعدم، فإنه لا بأس من استهدافها بالعداء طالما لا يوجد طرف آخر يمكن أن يلعب دور العدو الصريح. وربما يفسر هذا عدم الجدية في السعي لاستصدار تشريعات تدين الكراهية على اعتبار أنه داء موجود في الشرق أيضا. أظهرت الأزمة أن المسلمين رغم أنهم الأمة التي ابتدعت القياس كإحدى أدوات أصول الفقه إلا أن الجيل المعاصر منهم لا يستطيع أن يوظفه كما فعل الأولون، فأيا ما كان الاختلاف حول أسلوب مهاجمة السفارات فإن المرء لا يملك أن يمنع نفسه من السؤال لماذا لم يفكر المحتجون في أن يثوروا لإخوانهم في سوريا بمثل هذا الحماس؟ ولماذا لم تشهد سفارات الصين وروسيا موجات احتجاج مماثلة لتلك التي شهدتها سفارات الولايات المتحدة وألمانيا ؟(!)، رغم علم الكافة أن المواقف المتعنتة لكلتا الدولتين تتسبب في إطالة أمد المعاناة التي يعانيها الشعب السوري. مع العلم أن بعض الأطراف السياسية المتورطة في دعم نظام بشار (مثل حزب الله) وجدت في الدعوة للتظاهر ضد الفيلم المسيء لنبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) فرصة لاسترداد بعض القبول الشعبي الذي افتقدته جراء مساندتها لنظام يمارس القتل الجماعي بحق المسلمين. وأخيرا فقد أظهرت هذه الأزمة كيف يمكن بسهولة أن تخسر قضية ناجحة إذا ما اتبعت أساليب فاشلة، فلقد كان بوسع المحتجين أن يثيروا قضايا ناجحة كثيرة، مثل إدانة استخدام أدوات الإعلام للحض على الكراهية، وإعادة النظر في حدود المسؤولية عن الأعمال مجهولة المصدر التي تبث على شبكة المعلومات الدولية، وتجريم التوظيف السياسي لقضايا التعصب الديني (كما فعل الجمهوري ميت رومني). وكان السعي القانوني في هذه الملفات كفيلا بأن يسحب الهواء من أشرعة من قاموا بإنتاج الفيلم المسيء ووأد ما قدموه من فن رديء في التراب. ولكن الأساليب العنيفة التي استخدمت أدت إلى عكس المقصود منها، وحققت للمتآمرين معظم ما أرادوه خصوصا التأكيد على فكرة أن شعوب الربيع العربي تمتلك فائضا من العنف، الذي يمكن أن يتفجر في أي مناسبة، الأمر الذي يبرر للغرب النظر إلى تحولها نحو الديمقراطية بعين الشك بدلاً من أن يمد لها يد العون.