15 سبتمبر 2025
تسجيلللأسبوع الثاني على التوالي، لا حديث في المجالس ووسائل التواصل إلا عن مجلس الشورى والربكة التي أثارت نقاشات وحوارات وسجالات لا تزال ساخنة لم تهدأ، ولا مؤشر على أنها إلى الهدوء تقترب، إلا بزوال سبب الربكة، وهو دون شك بعض شروط الانتخاب والترشح المبنية على قانون الجنسية لعام 2005. المجتمع منذ أن ظهرت الكشوف الأولية للناخبين، انقسم على نفسه، في مشهد غير مألوف، لاسيما بعد ثلاث سنوات ملحمية – إن صح التعبير – هي فترة الحصار الجائر، اختفت خلالها القبلية بمفهومها الجاهلي، وحلت مكانها المواطنة الحقة، بعد أن بدأت الروح القبلية تطل برأسها شيئاً فشيئاً بعد سنة وأخرى خلال احتفالات اليوم الوطني، حتى صدرت توجيهات غاية في الحكمة، بإلغاء كل مظهر في اليوم الوطني يعزز روح الانقسام والتفاخر القبلي على حساب المواطنة، التي وإن لم تكن ظاهرة بشكل مباشر واضح، لكن مظاهر الاحتفالات والإنفاق غير المبرر عليها، كانت توحي بأنها أشبه بانفعالات بركانية توشك في أي لحظة أن يتم استغلالها بشكل سيئ، فتنفجر ويتضرر الجميع من حممها. وتم تدارك الأمر بذكاء وحكمة ولله الحمد. رب ضارة نافعة كلمات قالها سمو الأمير أثناء الحصار الغاشم. فلقد كان من أبرز منافع الحصار أن توحدت القلوب والكلمات، وصار الجميع يتصرف بروح واحدة أو قبيلة واحدة، لا فرق بين البدوي والحضري، ولا سنة أو شيعة، أو حتى بين المواطن والمقيم في مشهد نادر. هكذا كانت الصورة وهكذا كان المجتمع، الذي لم تترك دول الحصار وسيلة أو أداة لتمزيق ذاك التلاحم العجيب، إلا واستخدمته، فكان التصدي الجماعي لها بفضل الله رائعاً ومشهودا. لكن ما إن بدأت الاستعدادات لتفعيل وتجسيد مشروع مجلس شورى منتخب على أرض الواقع، حتى بدأت أصوات متنوعة تحذر من وجود بعض الإشكاليات التي ربما تعرقل أو تؤخر مسيرة المشروع، ولابد تبعاً لذلك من معالجتها قبل تجسيدها على أرض الواقع، منها توزيع الدوائر الانتخابية كإشكالية أولى، بحيث لا تكون على أساس قبلي أو ما سمي بالعنوان الدائم، وإنما يكون بحسب العنوان الوطني. ثم الإشكالية الثانية تمثلت في شروط الانتخاب والترشح، وظهور مصطلح تداوله الناس بطريقتهم وقد بدا عليه بعض الغموض، والخشية من تعدد تفسيراته، وبالتالي تنوع تبعاته وتأثيراته، وهو تصنيف المواطنين إلى أصلي وغير أصلي!. تلك التخوفات، التي أكاد أزعم أنها لم تؤخذ بالجدية الكافية حتى جاء أسبوع تسجيل الناخبين، الذي كان وفق تقنيات العصر، رائعاً وميسراً، أفاض حماسة بالغة بالنفوس تجاه التجربة. لكن حدث ما كانت الأصوات المنادية تخشاه في وقت سابق، وطالبت بضرورة معالجته قبل البدء به. صارت مسألة استلام رسائل القبول كناخب أو عدمه، حديث المجتمع، وصار الغموض سيد الموقف، والتساؤلات زادت: لم وصلت رسالة القبول لهذا ولم تصلني، ولم الابن يصله القبول والأب لا يصله، بل الأخ في العائلة الواحدة تصله الرسالة وأخيه الآخر لا تصله ! وحدث ما حدث خلال أسبوع واحد ساخن غير مسبوق، في مجتمعٍ لا زالت مشاهد الحصار والتلاحم بين أفراده عالقة وطرية بالأذهان. أساس الإشكالية في أيام قليلة، وبدلاً من أن ينشغل الناس بالخطوة التالية المتمثلة في فترة الترشيحات، واختيار مرشحيهم، والتعرف على أهدافهم، وخططهم للمجلس، تحولت الاهتمامات ناحية قضية أخرى خلقت توترات ومشكلات، أحسبُ أن المجتمع، بل الحكومة كلها في غنى تام عنها. تلكم هو قانون الجنسية رقم 38 لعام 2005 الذي جذب اهتمام المجتمع بشكل ملحوظ وكأنه صدر بالأمس، مؤثراً بذلك على مشروع الشورى، والأجواء الإيجابية المأمولة لتطبيقه. ولقد أفاض كثيرون من أهل القانون في بيان ما تسبب به القانون الجديد من إشكاليات، لا نريد التوسع فيها كثيراً، لكن نذكر منها ما جاء في دراسة للدكتور حسن السيد، أستاذ القانون في جامعة قطر ما ملخصه أن " الدستور القطري منح أحكام الجنسية القطرية الصفة الدستورية، التي لحقت بقانون الجنسية رقم 2 لسنة 1961 لكونه كان سارياً ونافذاً وقت بدء العمل بالدستور، ولم يلغ بل أبقى الدستور العمل به استناداً للمادة 143 منه. لذا فإن قيام المشرع العادي، بعد ستة أشهر من العمل بالدستور القطري بإصدار قانون جديد للجنسية يحمل رقم 38 لسنة 2005، وإلغاء قانون لحقت بأحكامه الصفة الدستورية، فيه مخالفة للدستور، وذلك لصدور القانون الجديد قبل انتهاء الفترة الزمنية التي حظر فيها المشرع الدستوري المساس بأحكام القانون القديم، وهي عشر سنوات من تاريخ بدء العمل بالدستور. ولما كان قانون الجنسية الجديد قد أتى بأحكام جديدة ضيّق بها من نطاق تمتع فئات محددة من المواطنين بالحقوق السياسية، فإن بطلانه سوف يؤثر إيجاباً على تمتعهم بهذه الحقوق، إذ سوف يسري عليهم ما قرره القانون السابق في هذا الصدد، ومنه على سبيل المثال تمتع أبناء المتجنس بالجنسية القطرية المولودين بعد اكتساب والدهم لها، بحقي الانتخاب والترشيح لعضوية مجلس الشورى القطري، وهو الأمر الذي يحرمهم منه قانون الجنسية القطري الجديد ". خطوات عملية لأن مشروع الشورى هو منحة من سمو الأمير لشعبه، ورغبة منه في بناء مؤسسات صلبة ديمقراطية في البلاد، فإن الحكمة بالتالي تقتضي ها هنا ألا تتحول المنحة بقدرة قادر إلى محنة. ذلك أن ما جرى خلال الأيام الفائتة كما أسلفنا الحديث حوله، مؤشر - لو لم تتم معالجة بعض الأخطاء سريعاً - إلى احتمالية كبيرة أن تتحول المنحة الجميلة إلى محنة، تجعل غالبية المجتمع يعيش في قلق على المستقبل، بل يتطلع إلى ما كان عليه الوضع التشريعي سابقاً، وربما يبدأ يتساءل عن الداعي لتحويل الشورى إلى مجلس منتخب، إن كانت تبعاته تؤثر على أمن واستقرار المجتمع، وخاصة أن هذا المجلس كان قائماً على التعيين منذ أن ظهر، وعلى أساس قبلي متوازن مدروس، ورغم ذلك لم يجد المجتمع منه ضوضاء ولا إزعاجا، ولا ينكر أحد جهود المجلس في كثير من الموضوعات والقضايا التي ناقشها على مدار تاريخه، حتى وإن لم تكن بعضها على المستوى المأمول، فلا يقلل ذلك أبداً من جهود الأعضاء السابقين، الذين كان اختيارهم، بالإضافة إلى المعيار القبلي كنوع من التوازن ومشاركة القبائل والعائلات في سن التشريعات والقوانين إلى جانب مؤسسة الحكم، كان أيضاً على أسس ومعايير متنوعة، لها أصل في تاريخ الحكم العربي الإسلامي. وقد عُرف عن كثير من الخلفاء اختيارهم لمجالس شورى كانت تعينهم على الحكم وإدارة البلاد والعباد، وكانت اختياراتهم من أهل الدراية والكفاية وأصحاب العلم والخبرات المتنوعة. وأحسبُ أن هذا التقليد هو الذي كان سائداً في قطر منذ أن ظهر مجلس الشورى. ولا شيء يعيبه إن استمر كذلك إلى حين آخر من الزمن. من هنا وحتى لا نطيل الحديث أكثر، نجد أولاً أهمية نزع فتيل أزمة - نرجو ألا تتطور أبداً - والمتمثلة في قانون الجنسية رقم 38 لعام 2005 والبناء على ما كان عليه الوضع بحسب قانون رقم 2 لسنة 1961 الذي به ستنتهي كل ما رأيناه فجأة خلال الأيام الفائتة، وأكاد أجزم أنه سيكون سبباً لعودة التلاحم والتماسك بين أفراد المجتمع كما كان زمن الحصار تحديداً. وبهذا القانون أيضاً، لن يختلف أحد على مسألة الانتخاب والترشح، بل سنكون في مصاف الديمقراطيات العريقة في العالم، التي لا تجد في شروط الانتخاب والترشيح فيها يختلف عن الذي جاء في قانون 1961 في قطر.. خذ بعض الأمثلة على ذلك: في الولايات المتحدة مثلاً، لا تتسم شروط الترشح لعضوية الكونجرس بأي تعقيد، منها أن يكون المرشح يحمل الجنسية الأمريكية مدة سبعة أعوام على الأقل، ويكون قد تجاوز عمره 25 عاماً، وبشرط أن يكون مقيماً في المقاطعة أو الولاية التي سيترشح عنها. وفي بريطانيا يجب أن يكون المرشح حاملاً للجنسية البريطانية التي يحصل عليها بالولادة أو عن طريق التجنس بعد خمس سنوات من الإقامة في البلد، أو بعد ثلاث سنوات من الإقامة فيها بشرط الزواج من إحدى مواطنات المملكة المتحدة، وألا يقل عمره عن 18 عاماً. أما في فرنسا فالوضع لا يختلف، حيث يترشح كل من يحمل الجنسية الفرنسية التي يكون قد حصل عليها بالولادة أو بالزواج من مواطنة فرنسية أو بالإقامة في الأراضي الفرنسية لمدة خمس سنوات على الأقل، وألا يقل عمره عن 23 عاما. والأمثلة أكثر مما يتسع المقام هنا لذكرها. التدرج والرفق في البناء يمكن ثانياً تلخيص الموضوع والقول بأن التدرج مطلوب في بناء المؤسسات الديمقراطية، وليس شرطاً البدء بهذا النوع من الحكم والإدارة عبر القفز سريعاً إلى أكبر المؤسسات التشريعية وهي مجلس الشورى. فكما بدأنا منذ عشرين عاماً بمجلس بلدي منتخب بالكامل، يمكن الآن تعزيز ثقافة الديمقراطية فيما هو قائم من كيانات ومؤسسات، والتوسع التدريجي في سن قوانين وتشريعات تسمح بإقامة الجمعيات أو النقابات المهنية مثلاً، كجمعية أو نقابة معلمين وأطباء ومهندسين ومحامين وغيرها من المهن، بالإضافة إلى الاتحادات الرياضية في الأندية مثلاً، والاتحادات الطلابية في الجامعات وغيرها كثير. بحيث تكون تلك الكيانات بمثابة مدارس يتعلم فيها أفراد المجتمع في مختلف الأعمار، منظومة وثقافة الديمقراطية، التي تشتمل على حرية التعبير والاختلاف وقبول الآخر والعمل الجماعي، والمراقبة والمساءلة وغيرها من قيم الديمقراطية التي تتناسب وقيمنا وثقافتنا العربية الإسلامية. هكذا نكون دخلنا في عمليات البناء المؤسسي والديمقراطي بشكل متدرج، كما يحكي التاريخ كيفية ظهور الديمقراطيات العريقة في العالم والتي أخذت وقتها الكافي للنضج والبدء في قطف الثمار. لا نريد الاستعجال في البناء ولا التشدد في تفاصيله، حيث الشيطان يعيش، بل نريد الرفق والتدرج في الأمر. وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق قال: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله. وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه ". والله كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [email protected]