14 سبتمبر 2025

تسجيل

خرافة أمريكا العلمانية

19 أغسطس 2015

يشكل الدين أحد محددات العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وكما هو معلوم فقد كان التبشير البروتستانتي الذي حمل لواءه رجال ونساء الإرساليات الأمريكية في المنطقة هو أول نمط للتفاعل السلمي بين الطرفين، وكان "تجمع المبشرين في واشنطن" يضغط باستمرار على صناع السياسة في البيت الأبيض لضمان حرية حركة وعمل المبشرين الذين كان يرسل بهم إلى المنطقة للعمل تحت يافطات تعليمية وطبية وإنسانية وإغاثية. كما أنه من المعلوم أن المبشرين الأمريكيين كانوا أحد أهم العوامل التي أدت إلى تنامي الروح القومية لدى العرب وساعدوا من ثم على نشوب ما عرف بالثورة العربية ضد الحكم العثماني مما كان له أثره في تقويض دولة الخلافة. ورغم ذلك يطيب للكثير من النخب العلمانية في بلادنا التأكيد على أن أمريكا هي قبلة العلمانية في العالم، وأنها النموذج الذي يحتذى لفصل الدين عن الدولة، ويبدو هذا القول مغايرا للواقع في قدر كبير منه. فمنذ منتصف القرن العشرين، صار صحيحا في حق الولايات المتحدة الأمريكية "أن توصف بأنها دولة شديدة العلمانية وشديدة التدين في الوقت ذاته"، "ففي الوقت الذي تدار فيه أعمالها ومهامها على نحو علماني صرف، فإن الكثير من ساستها ومواطنيها يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم وهم يؤدون أعمالهم الحياتية أو يتخذون قراراتهم السياسية، إنهم يرضون الرب بذلك"، "وفي الوقت الذي تراجعت فيه نسبة من يمارسون الشعائر الدينية إلى أقل من 4 أو 5 % في أوربا فإن النسبة في الولايات المتحدة لازالت تتخطى الـ 50 %"، ويرتبط الدين والسياسة في الولايات المتحدة على نحو معقد "حتى لو كان التعديل الأول على الدستور الأمريكي ينص على انفصالهما عن بعضهما البعض". وتاريخ أمريكا مع التدين بدأ مع تكونها كأمة، فقد تشكلت الملامح الأولى للولايات المتحدة الأمريكية على يد البيوريتانيين (التطهريين) "الذين هربوا من أوربا إلى العالم الجديد من أجل أن يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع معتقداتهم الدينية"، أو بعبارتهم من أجل "تأسيس مدينة على التل"، أو "صهيون جديدة"، تبتعد بساكنيها عن شرور العالم. ومن اللافت أنه في إحدى المستعمرات الأمريكية "حدد البيوريتانيون اثنتي عشرة جريمة يعاقب مرتكبوها بالإعدام، وكانت الجرائم الثلاثة الأولى منها تتعلق بالأمور الدينية". وفي الوقت الحاضر، لا يزال للدين حضوره القوي في المجال العام، "فأي مرشح يطمح للارتقاء السياسي لا يمكنه أن يتجاهل الأسئلة الدينية الكبرى"، كما أن العديد من المدارس على مستوى البلاد تتحايل على قرارات المحكمة العليا من خلال السماح بعدد من الرموز الدينية. "وليس من الظواهر الغريبة في الولايات المتحدة أن ينظم حاكم أحد الولايات اجتماعا (كما فعل حاكم ولاية جورجيا) مع المسؤولين للترتيب لعقد صلاة استسقاء إذا ما تأخر هطول الأمطارعلى ولايتهم". وعلى الرغم من صدق نبوءة علماء الاجتماع الغربيين (التي صاغوها في مطلع القرن العشرين) من أن عمليات التحديث والتصنيع سوف يترتب عليها تراجع معدلات التدين وتزايد معدلات العلمنة، إلا أن الولايات المتحدة قد مثلت استثناء على تلك النبوءة، لدرجة أنه في أثناء الحرب الباردة كان الكثير من الأمريكيين ينظرون إلى الصراع مع السوفيت على أنه صراع بين قيم المسيحية وقيم الإلحاد، حيث كانت الشيوعية تصور في هذا السياق على أنها تلك العقيدة التي تجحد وجود الرب، أما أمريكا فكانت تصور ليس فقط على أنها في صف الديموقراطية والرأسمالية ولكن في صف الحرية الدينية التي يحرم السوفيت رعاياهم منها. ويدأب زعماء أمريكا على التأكيد باستمرار على أن سياسة بلادهم تستند إلى إيمان عميق، فأمريكا هي صاحبة الشعار الشهير "بالرب ثقتنا"، على عملتها، وهي التي أضافت إلى قسم الولاء عبارة "أمة واحدة في ظل الله"، One Nation under God، باقتراح من الرئيس أيزنهاور. حاليا يحمل اليمين المسيحي لواء دمج الدين بالسياسة في الولايات المتحدة. وقد بدأ هذا التيار مهتما بالخلاص الفردي، "حيث اعتقد الإنجليون أن المجيء الثاني للسيد المسيح قريب جدا لدرجة لا تسمح بمحاولة إنقاذ المجتمع ككل، فانصب تركيزهم على محاولة الخلاص الفردي، ولكن التحولات التي شهدها المجتمع الأمريكي فى السبعينيات، مثل الإباحية، والإجهاض وتفكك الأسرة وزيادة معدلات الجريمة، دفعت الإنجيليين إلى تشكيل جماعات ضغط، كتلك التي أسسها القس جيري فالويل، والمعروفة باسم الأغلبية الأخلاقية، لإنقاذ المجتمع من الشرور التي تهدد تماسكه". كما ازداد اندفاع الإنجيليين إلى العمل العام بعد خيبة أملهم جراء سياسات الرئيس جيمي كارتر، بعد فوزه بالرئاسة عام 1976، فبوصفه انجيلي من المولودين ثانية، توقع الإنجيليون منه أن يتخذ سياسات حاسمة إزاء القضايا الشائكة دينيا، "ولكن كارتر أثر أن يلتزم بالخط العام لحزبه الديموقراطي فيما يتعلق بقضايا الحريات الشخصية، كما آثر الوفاق مع السوفيت الأعداء التقليديين لليمين المسيحي. ولذا لم يكن من المدهش أن يكون التيار الديني أحد العوامل المسئولة عن عدم فوز كارتر بولاية ثانية، وفوز المحافظ الجمهوري رونالد ريجان". وقد رد ريجان الجميل للوبي المسيحي، "فأعلن تأييده لأنشطتهم، وعين عددا من المفضلين لدى اليمين المسيحي في مناصب سياسية"، ومنذ تلك الفترة أصبح ثمة تحالف وثيق بين الحزب الجمهوري، واليمين المسيحي حيث تلاقت اهتمامات الجمهوريين واليمين المسيحي حول موضوعات متعددة مثل التأكيد على القيم التقليدية (دور الأسرة، التمييز بين الرجل والمرأة، فرض قيود على الإجهاض، الحد من حقوق الشواذ، تقييد التدخل الحكومي في تنشئة الأبناء)، وقضايا التعليم (إقامة الصلاة في المدارس العامة، تدريس علوم الخلق كما وردت في العهد القديم، وليس كما جاءت في نظرية التطور، عدم إخضاع المدارس الدينية للنظم الحكومية)، والقضايا العسكرية (تأييد وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى في العالم مدافعة عن القيم والإيمان، وناشرة لهما)، والقضايا الاقتصادية (خفض التدخل الحكومي فى تنظيم الأعمال الخاصة، والصناعة، ونقل المسؤولية عن الرفاه الاجتماعي من الدولة إلى القطاع الخاص)، قضايا الولاء (إصدار التشريعات التي تحمى قدسية العلم الأمريكي، ويمين الولاء لدولة موحدة تخضع لمشيئة الرب)". لكل ما سبق يبدو من المهم تقييم المحتوى الديني في الخطاب السياسي للمرشحين المحتملين للرئاسة الأمريكية، في انتخابات العام القادم، على نحو ما سنستعرض في مقالات تالية إن شاء الله.