30 أكتوبر 2025

تسجيل

التراجع عن التعريب في الجزائر يخدم الفرانكوفونية

19 أغسطس 2015

عقدت وزارة التربية الجزائرية مؤتمراً في 21 يوليو الماضي، بمشاركة خبراء في التعليم، انتهى برفع توصيات إلى الوزيرة، أهم ما فيها تدريس أطفال المرحلة العمرية 5سنوات و 6 سنوات اللهجات العامية الدارجة، بحسب المناطق التي يقيمون بها، بحجة أن الأطفال الصغار لا يستوعبون اللغة العربية في هذا السن، وبأن تحضيرهم لتعلمها في السنة الثانية ابتدائي يمر حتماً عبر دعم رصيدهم من اللغة العامية. وقد تبنت وزيرة التربية الجزائرية نورية بن غبريط توصيات المؤتمر، وحولتها إلى قرار حكومي، رغم أن القرار لم يصدر عن رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة شخصياً، الذي يُخَوِلُ له الدستور اتخاذ القرارات التي تحسم توجه المجتمع والدولة، ما ألقى ظلالاً من الشك حول إمكانية ترجمة قرار الوزيرة في الوقت الحالي. ومع ذلك، فقد أثار قرار وزيرة التربية الجزائرية المتعلق بإمكانية إدراج «العامية» في الأقسام الإبتدائية جدلاً ساخناً في الجزائر، بين دعاة التعريب والمدافعين عن اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم، وبين دعاة الفرانكوفونية من المثقفين المتفرنسين والحركة البربرية، الذين يعتبرون أوروبا وفرنسا تحديداً مرجعية في الاقتصاد والإدارة وتسيير شؤون الدولة الجزائرية. وقد طرح قرار وزيرة التربية الجزائرية مسألتين في غاية الأهمية، ولكنهما مترابطتان: الأولى: لقد تحول الدفاع عن خيار التعريب إلى مسألة قومية لها علاقة عضوية بالهوية العربية الاسلامية للجزائر، وتحولت مقاومة التعريب إلى دفاع عن اللغة الفرنسية في شكل دفاع عن «الثقافة الشعبية» من جانب الحركة البربرية، التي هي صنيع الفرانكوفونية في الجزائر. الثانية: خيار التعريب وعلاقته بسياسة الدولة في مجال التعليم والاقتصاد والسياســة عامة. فالحركة البربرية التي أسست لخدمة الفرانكوفونية أكثر من خمسة أحزاب سياسية إلى حد الآن في الجزائر، هي التي تناصب العداء لخيار التعريب، وما حققه من استقلال لغوي وثقافي عن اللغة الفرنسية في جميع مراحل التعليم وتخصصاته. الحقيقة أن موضوع التعريب كان ولا يزال موضوع صراع بين طرفين متصادمين في تكوينهما الثقافي والأيديولوجي والسياسي، وفي رؤيتهما للمشروع الثقافي على صعيد الجزائر، وفي جو خلا من الحوار الموضوعي والديمقراطي طيلة السنوات الطويلة الماضية، تحول النقاش إلى حوار طرشان، وبحجج أيديولوجية مسبقة وجاهزة يغلب عليها الطابع العاطفي، إذ إن كل طرف ينشد بوعي أو من دونه وبما يتوقعه أنه يخدم المصلحة العامة، على صعيد الثقافة الشعبية. ومن الواضح أن الدفاع عن خيار التعريب باعتباره خياراً قومياً وديمقراطياً، بصرف النظر عن الجهات التي تقف وراءه وخلفياتها الأيديولوجية والسياسية – هل هي منساقة ومنخرطة مع هذا الخيار أم هي تستخدمه لأغراض سياسية – قد قابله مجموعة من التيارات المقاومة لخيار التعريب الذي يصب في المحصلة النهائية في موقع الدفاع عن اللغة الفرنسية في شكل الدفاع عن الثقافة الشعبية، خاصة من الأحزاب السياسية البربرية، وأبرزها «حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية». إن خيار التعريب في الجزائر يهم الشعب العربي والأمة العربية بأسرها، وكل قواها الوطنية والديمقراطية والاسلامية، و هذا يقتضي توضيح المسائل التالية: أولاً: إن اللغة الفرنسية أدخلها الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر باعتبارها إحدى أسلحته الإيديولوجية والثقافية ، لتسلخ الشعب الجزائري عن لغته الوطنية العربية، وحرمانه طيلة أكثر من قرن، الأمر الذي جعل الجزائر تعيش حالة من الانقطاع التاريخي على صعيد التواصل الثقافي والوطني .ومن هذا المنطلق فاللغة الفرنسية التي تمكنت من الاستحواذ على قسم مهم من أبناء الشعب الجزائري، بوساطة حرمانهم من ثقافتهم ولغتهم الوطنية ألا وهي العربية، هي لغة دخيلة على الشعب الجزائري، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها جزءا ً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية . لأن الثقافة الشعبية، لا تتحقق بوساطة اللغة الأجنبية، لغة المستعمر الفرنسي، بل بوساطة اللغة العربية، باعتبارها اللغة الوطنية للشعب الجزائري، الذي هو جزء من الشعب العربي، حيث تمثل اللغة إحدى المقومات الأساسية للأمة العربية، وبالتالي كمكون لشخصيته و ثقافته القومية . وفضلا ًعن ذلك فإن اللغة الوطنية في الجزائر، والحال هذه العربية، هي اللغة التي تشمل باتساعها الجغرافي كل القطر الجزائري، وهي لغة الثقافة الوطنية. وتعمل الحركة الفرانكوفونية وأداتها المحلية على تحويل الصراع القائم بين اللغة العربية، باعتبارها اللغة الوطنية السائدة، وبين اللغة الفرنسية المحتلة، إلى صراع داخلي لا حصر له، بين اللغة العربية واللغات الوليدة والمستولدة في المحاضن الفرنسية، لحساب سيادة اللغة الفرنسية ، وتأييدها في البلاد . وهو سبب كل هذه التخطيطات الجهنمية منذ سنوات، على حد قول مثقف جزائري عروبي. وتجدر الإشارة هنا إلى الموقف الوطني المُشرّف الذي وقفه العلماء الجزائريون المنحدرون أصلا ً من البربر أي من الأمازيغ ضد الاستعمار الفرنسي، ومحاولة شطب الهوية العربية الاسلامية للجزائر، وهم العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، والبشير الابراهيمي، والعربي التبسي الذين رفعوا شعار في إطار مقاومة الاستعمار الفرنسي « الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا » ، وهم الذين أقروا انتساب الشعب الجزائري للعروبة « شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب » ، من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب ». ثانياً: إن تأجيل قانون التعريب، وبالتالي التراجع عن خطة التعريب من جانب الدولة الجزائرية، يخدم أحد أهداف الحلم الاستعماري الفرنسي الكبير في الجزائر، الذي كان ولا يزال يمارس ضغوطات متعددة على السلطة الجزائرية (بواسطة اللوبي المصنوع لهذا الهدف في الجزائر ألا وهي الحركة البربرية ) من أجل الإبقاء على سيادة اللغة الفرنسية في كل المرافق الاستراتيجية للدولة : الإدارية ، والاقتصادية ، والعلمية ، والإعلامية ، والعسكرية ، كما هو الحال للبلدان الإفريقية الفرانكوفونية أي الناطقة بالفرنسية كلغة رسمية سائدة، والتي اختارت لغة الإستعمار الفرنسي فجر استقلالها، لأنها لا تملك لغة وطنية سائدة على مستوى أقطارها. ومن هذا المنظار فإن خيار التعريب له علاقة عضوية مباشرة بخيار التعليم، ولأن التعليم إذا قيض له أن يسهم إسهاما ً حقيقيا ً في تكوين الإنسان من المدرسة إلى الجامعة، باعتباره إنتاجا ً للبشر، الذي لا يعطي ثمارا ً إلا بعد سنوات طويلة، حيث تمتص المجالات المتعددة الاقتصادية والسياسية و الثقافية كل الكوادر المقتدرة والموهوبة، يتطلب أن يكون ضمن سياسة وطنية ثورية وقومية ديمقراطية شاملة للحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والوطنية في الوطن العربي عامة، وفي بلدان المغرب العربي خاصة، أو لا يكون . ولما كان التعليم يهدف إلى تنمية الثروة البشرية، وتكوين الكوادر المتخصصة في الميادين المهنية، والمدنية، والسياسية،والثقافية، والخلقية، فإنه إما يكون عماد سياسة هذه الدولة الوطنية أو تلك، أو لا يكون . لأن الثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية الهائلة في الغرب، سواء مع تفجر الثورة البرجوازية الديمقراطية أم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من ثورة علمية وتكنولوجية، يلقبونها في الغرب بالثورة الصناعية الثالثة، تحققت بفضل إعطاء الدولة الأولوية والعناية بالتعليم العالي الجامعي، ومراكز البحث العلمي في المجتمعات الغربية . إذ إن هذه الدول الصناعية الغربية قد اقامت امبراطوريتها الصناعية، وحققت تطورها المذهل في الإنتاج الزراعي، وفي الرخاء المادي، بفضل تطوير التعليم في مختلف مراحله، وتنمية الثروة البشرية، وإعلاء المستوى الثقافي للإنسان، ونشر المنهج العلمي في التفكير، وتنمية الخصب الثقافي من العلوم الانسانية على اختلافها، ونشرها في مختلف أوساط المجتمع . إذا ً، التعريب في البلاد العربية عامة، والمغرب العربي خاصة، هو مسألة لها علاقة عضوية مباشرة باهتمام الدولة الوطنية بسياسة المواطن ماديا، و فكريا، أولا وأساسا . فالتعريب ليس مجرد برنامج يطبقه هذا الوزير أو ذاك، بل هو اختيار إيديولوجي وسياسي وثقافي واع للأمة العربية، لكي تخوض المعركة الفكرية والثقافية والتعليمية، بين الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الغربية المهيمنة، علما أن سلاحنا في هذه المعركة (نحن دعاة التعريب ) ضعيف بحكم قانون التفاوت في التطور على صعيد الإمكانات الثقافية والحضارية بيننا وبين الغرب. ثالثا: إن طابع التخلف الذي يطبع لغتنا العربية عامة، وخيار التعريب في المغرب العربي خاصة، نابع بشكل أساس من التأخر التاريخي لمجتمعنا العربي. ولما كانت اللغة العربية، عبر مسارها التاريخي بنية تحتية أسست لظهور المجتمع المدني، وتبلور فكرة الأمة، ضد كل التوصيفات الماركسية التي تعتبرها جزءا من البنية الفوقية فقط، فإنها تشكل الآن أكثر من أي وقت سبق المعبر الرئيس الذي ينتقل به مجتمعنا من حالة التأخر التاريخي إلى التقدم، ومن القعود إلى النهوض . والحال هذه، فإن اللغة العربية ليست عاجزة عن استيعاب وتعلم العلوم الدقيقة، خاصة الرياضيات العليا، والفيزياء النووية، والهندسة الوراثية، والميكانيك المعقدة . لأن هذه العلوم والرياضيات عبارة عن مصطلحات وأرقام ورموز تترجم أحيانا ً الى اللغات الآخذة، وتنقل كما هي أحيانا ً أخرى من اللغات المأخوذة عندما تكون أسماء عالمية تستعمل بنفس اللفظ أو الرمز في جميع اللغات. واللغة العربية لكي تكتسب كل خصائص اللغات العلمية الحية والمعاصرة والحديثة ، وتدخل حلبة التنافس، تحتاج إلى التأهيل العلمي واللغة والمستوى العلمي مترابطان، إذن لا يمكن للإنسان العربي أن يعيش بعقله في جهل القرون الوسطى، وعصور الانحطاط، بينما في لسانه يعيش في عصر الذرة والكمبيوتر والإنترنت. فحياة اللغة العربية، مرتبطة بالتحرر الراديكالي للأمة العربية في كل مجالاتها أولا، و بحياة الفكر والثقافة المبدعين ثانيا ً . وهكذا تبدو حياة اللغة العربية مرتبطة بالثورة الفكرية والثقافية الشاملة، على الصعيد العربي، وبالثورة السياسية، التي تؤسس لبناء مجتمع مدني حديث، بالتلازم مع بناء دولة الحق والقانون . ومن هذا المنظار تصبح حياة اللغة العربية هي تحقيق تحرر وحرية الأمة العربية . إن خيار التعريب كل لا يتجزأ، فهو لا يتم في التعليم وحده، ولا في اللغة على انفراد، بل يتم في جميع مؤسسات المجتمع، تسيره قوانين حازمة بعيدة عن التمتع بالرخاوة البرجوازية والثقافة الأمريكية المهيمنة. إنه ليس سؤالا ً ثقافيا ً، ولا سؤال يهم فقط المثقفين العرب وفي مقدمتهم القائمون بعلم الاجتماع واللغة العربية، لكي تحقق قفزة نوعية في تطورها التاريخي، ولكي تتجاوز تأخرها التاريخي، حيث إن التعريب على صعيد المناهج العلمية والتكنولوجية، خيار واحد من المعضلات الأساسية التي تواجه القوى القومية، والديمقراطية العربية، ويتطلب حلا ً ثوريا ً صحيحا ً. هناك تلازم بين اللغة، باعتبارها أهم وأخطر أعضائنا العقلية، وبين محتواها الفكري والحضاري، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، ولهذا فإن اللغة والفكر، والمجتمع المدني، ودولة الحق والقانون مقولات تتقدم معا ً، وتتراجع معا ً أيضا. ولكي تسهم اللغة العربية في الإنتاج العلمي والتكنولوجي، يترتب على المثقفين العرب باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الحية، أن لا تنحصر مهمتهم العلمية، في نقل المصطلحات الأجنبية وشرحها للطلاب فقط، بل إن مهمتهم الأساسية هي توخي استراتيجية للترجمة طويلة الأمد لنقل الروح العلمية والخلق التكنولوجي إلى اللغة العربية، لكي تصبح لغتنا العربية، بعد أن تهضم هذه الترجمة بالتوازي مع مواكبتها لتطور العلوم الدقيقة والتكنولوجية، قادرة على عملية التخليق العلمي والتكنولوجي، على الرغم من الصعوبات البنيوية الناتجة عن طبيعة مجتمعنا العربي المتأخر تاريخيا، والمتسم بالفوضى والإهمال...