13 سبتمبر 2025

تسجيل

رؤى من رأى

19 يوليو 2023

كيف يمكن أن نفكر في المجتمع من جديد؟ تقتضي كل محاولة للنهوض بمجتمع ما مجموعة من الخطوات، أولها التفكير في هذا المجتمع، ومحاولة التعرف على قضاياه المميزة. قد يبدو هذا التمييز من البداهة بمكان حتى أننا نفترضه مسبقاً، لكن التجربة تثبت عكس ذلك. تصطدم كل محاولة جدية للتفكير في مجتمعاتنا العربية بتوتر نظري ملح. من جهة أولى، نلاحظ أن المعارف النظرية حول المجتمعات المختلفة متراكمة، ومتواترة لدرجة تجعل من مهمة الإلمام بها عملية تكاد تكون مستحيلة في حياة آدمية واحدة. لكن من جهة أخرى نلاحظ أن محاولات التفكير في المجتمعات العربية بحد ذاتها، لم تلق الرواج الكافي، ولم تتمكن من اختراق الحيز الأكاديمي إلى الفضاء العام الذي يشاطره المواطنون. السبب: يخيل للكثيرين أن كل محاولة للتفكير في واقع مجتمعاتنا العربية، أنه يجب إما أن تنطلق هذه المحاولة من المستوى التأسيسي، أي من البداية، أو تلجأ إلى آخر منتجات العقل الغربي من نظريات سياسية، وثقافية، وفلسفية. لكن هذا التوجه يجانب الصواب في تقديرنا لجملة من الأسباب الموضوعية. أولاً، لا يمكن لكل محاولة للتفكير في واقع اجتماعي معين أن تنطلق من درجة الصفر؛ لأنها بهذا إما تقصي عمداً أو تجهل ما قدمه المفكرون السابقون من العرب في حالتنا هذه. وقد يخفي هذا الإقصاء نظرة دونية لكل ما قدمه السابقون، وينتجه المعاصرون، في ادعاء لتأسيس جديد للمعرفة. لا يمكن لهذه المحاولات أن تثمر داخل مجتمعاتنا لأنها ببساطة تهمل الصيرورة التاريخية والفكرية التي ساهمت في انشائها. ثانياً، لا يمكن أن تحل المشاكل التي تواجه وجودنا المعاصر عبر استيراد النظريات الفلسفية، والفلسفية الغربية ضمن قوالب جاهزة، وندعي أنها صالحة لخصوصية مجتمعنا العربي. سرعان ما تصطدم كل محاولة من هذا القبيل إما بعدم قدرة النظرية على تفسير الواقع الذي تتجه نحوه بالتحليل، أو بغياب التبني المجتمعي لهذه المقولات النظرية. سوف أحاول في هذا العمود تقديم تصور نظري يتصدى لهذه الصعوبة بالتحليل النقدي، كما سوف أسعى في مجموعة المقالات المقبلة إلى تقديم أمثلة نظرية لكيفية مواءمة النظرية، سواء كانت غربية أو عربية، مع واقع مجتمعاتنا. ما أقترحه هو طريقة قراءة جديدة لموروث النظرية السياسية، والثقافية، والفلسفية عبر التعريف أولاً بالنقاشات الأكاديمية المعاصرة، وأهم اطروحاتها من جهة، ومحاولة تقييم مدى قدرتها على تفسير واقع المجتمعات العربية المعاصر. سوف أحاول أن أقدم أبرز نظريات المفكرين العرب الذين حاولوا فهم «أزمة» مجتمعاتنا في مراحل مختلفة بدءًا من عصر النهضة وصولاً إلى اليوم، كفكر الطهطاوي، الكواكبي، خير الدين التونسي، قاسم أمين، رشيد رضا، حسن البنا، عبد الله العروي، عابد الجابري، أركون وصولاً إلى عزمي بشارة، والمفكرين المعاصرين. سوف تكون قراءتي هذه محاولة لتتبع الهواجس الفكرية التي واجهها هؤلاء المنظرون في محاولاتهم المختلفة لفهم، وتفسير، وأحياناً التقدم بمشاريع إصلاحية لمجتمعات متأزمة في تقديرهم. وأهدف من وراء مجموع هذه القراءات تقديم تصور تاريخي للتطور الفكري الذي مرت به هذه المشاريع، الأمر الذي سوف يمكننا، في تقديرنا، من فهم أعمق للإشكاليات المجتمعية التي لا زلنا نواجها اليوم. لكن مشروعنا لا يمكن إلا أن يكون منقوصاً إذا اكتفى بدراسة الشق العربي لهذا الجهد النظري في فهم طبيعة التجمعات البشرية. إن النظرية الفلسفية، والثقافية، والسياسية هي نتاج إنساني، ونتاج حوار بين مختلف الحضارات الكونية، وخصوصاً مع الفكر الغربي المهيمن على ذات أساس ادعاء الكونية منذ خوضه مسيرة الحداثة، والأنوار وولادة الدولة الحديثة، والديمقراطية، وما صاحبه ذلك من أشكال جديدة للتنظيم السياسي داخل المجتمع. يجب على كل محاولة جادة للتفكير في واقعنا المعاصر أن تنخرط، حسب تقديرنا، في حوار عليم مع المفكرين الغربيين، ومنتجاتهم النظرية بغاية فهمها، تحليلها، ومواجهتها نقدياً من خلال البحث في مدى مطابقتها، وقدرتها على تحليل الظواهر المدروسة خارج نطاق صلاحيتها المألوف، وهو المجتمعات الغربية بالأساس. ختاماً... سوف أحاول التصدي لهذه المهمة النظرية من خلال تقديم أبرز المقاربات الفكرية المؤثرة داخل عالمنا المعاصر مثل أعمال (ميشال فوكو، إدوارد سعيد، جون رولز، دولوز، هابرماس، جاك دريدا، شارلز تايلور وغيرهم) من أعلام التفكير (السياسي، والثقافي، والفلسفي) بغية تمكين حوار مستوفي، ومتكامل حول مدى ملاءمة هذه النظريات لمجتمعاتنا العربية، وتفسير ما تمر به من تحولات.