30 أكتوبر 2025

تسجيل

الرد على الاتفاق.. خلقُ أمرٍ واقعٍ جديد في سوريا

19 يوليو 2015

لايوجد عنصرٌ أثَّرَ سَلباً، ويؤثرُ، في تعامل النظام العربي مع المشروع الإيراني للهيمنة على المنطقة أكثر من التأخير في اتخاذ المواقف الفاعلة، خاصةً في اللحظات المفصلية الحساسة.كثيرةٌ هي الأمثلة السلبية على الحقيقة المذكورة، لكن المثال الإيجابي الواضح، بالمقابل، يكمنُ في انطلاق (عاصفة الحزم) في الوقت المناسب قبل حصول مالا يُحمدُ عقباه. كانت السعودية تُدرك أن قيادة العملية المذكورة في اليمن لن تكون نزهةً سريعة، فهذا ليس من طبيعة مثل هذه القضايا الكبرى. من هنا، يُصبح الحديثُ عن أعباء العملية حتى الآن سخيفاً وأقربَ لتنظير من يملك ترفَ التنظير. والمؤكد أنﱠ أصحابهُ إما أنهم لايُدركون ما كان يمكن أن يجري لو لم تنطلق العاصفة في وقتها، أو أنهم يُدركون، لكنهم يمارسون فوق التنظير عمليات (الاستغباء) و(التذاكي).ما من شكٍ أن اتفاق إيران الأخير مع الغرب عاملٌ مؤثر في رسم ملامح المنطقة وسياساتها في المراحل القادمة، لكنه ليس (نهاية العالم) بالنسبة للعرب كما يحاول البعض أن يوحوا، صادقين كانوا في (عويلهم) أو مُغرضين..والمؤكدُ أن التعامل مع الاتفاق وتداعياته يحتاج إلى رؤيةٍ سياسية متطورة ومتعددة المسارات على المَديين المتوسط والبعيد، بمعنى ألا ينطلق أيﱡ فعلٍ سياسي من التشنج وردود الأفعال. ففي جميع الأحوال، لن تحصل إيران على الأوراق التي ربحتها نتيجة الاتفاق ما بين ليلةٍ وضُحاها. وهناك الكثير من الملابسات الدبلوماسية والسياسية والتشريعية التي يجب إنجازُها داخل إيران وداخل أمريكا وما بينهما. وهي ملابساتٌ يستطيع النظام العربي أن يستهدفها باختراقات مدروسة بشكلٍ مباشر وغير مباشر.. خاصةً بعد أن اتضحت بشكلٍ كامل تفاصيل الاتفاق، وأصبح بالإمكان معرفةُ (المفاصل الرخوة) فيه، وبالتالي مداخل الاختراقات المذكورة..لا توجد اتفاقاتٌ في هذا العالم تُنحتُ في الصخر، وكما كان ديغول يقول دائماً: "المعاهدات كما تعرفون كالأزهار والفتيات اليافعة، تدومُ فقط بقدر دورة حياتها". وهذه فرصةٌ ليتصرف العرب بشكلٍ مهنيٍ محترف يحقق مصالحهم من خلال تشكيل فرق عمل لخبراء ومختصين (حقيقيين) في الحقول ذات العلاقة، يَدرسُون الاتفاق وكل ما يُحيط به من ملابسات، ليكتشفوا ثغراته وتناقضاته ومكامن تضارب المصالح فيه، فتكون تلك أرضية السياسات التي يتم رسمُها للتعامل مع الاتفاق.لامجال هنا أبداً لمشاعر الخيبة واليأس ومشاعر الاستسلام، فهذه عناصر الانهيار النهائي والكبير نفسياً وسياسياً. على العكس من ذلك تماماً، هذا أوان التحدي المدروس المتوازن الذي يمكن أن يقلب الطاولة على الجميع. وهو يتطلب درجاتٍ من القوة النفسية والإرادة السياسية والتخطيط العملي ربما لم تظهر الحاجة إليها بهذه الدرجة في الظروف السابقة.رغم كل هذا. يبقى الإسراعُ في خلق أمرٍ واقعٍ جديد في سوريا، تحديداً، عنصراً رئيساً يقع في القلب من الإستراتيجية المتكاملة المطلوبة للتعامل مع هذا التطور الحساس.ثمة فخٌ ينصبهُ البعض للعرب في هذا المجال من خلال الإيحاء بأن مهادنة إيران، خاصةً في سوريا، والسماحَ لها باستمرار سياساتها هناك سيدفعُها للتنازل في مواقع أخرى.. هذه الطريقةُ في التفكير هي تحديداً ما يريد الإيرانيون إشاعتهُ في بعض أوساط صناعة القرار، حتى العربية منها، بعد إنجاز الاتفاق مع الغرب. وستكون أيﱡ قناعةٍ بها أولَ نجاحٍ إستراتيجي (سياسي نفسي) لإيران بعد الاتفاق، لأنه سيُسهِلُ عليها إلى درجةٍ كبيرة إكمال مشروعها بأقل قدرٍ من الممانعة.يُغفل التفكير أعلاه حقيقة أن إيران قدمت التنازلات التي قدمتها للغرب لسببٍ واحدٍ ووحيد يتمثل في أنها أدركت، ببراغماتيتها المعروفة، أنها لاتستطيع المواجهة على جبهتين. من هنا، اختارت الرجوع خطوةً إلى الوراء على المستوى الدولي لتتقدم خطوات إلى الأمام في الفضاء الإقليمي.لم يعد خفياً على مراقبٍ جدي أن سياسة إيران على المدى الطويل ستكون محكومةً بعاملين. هيمنةُ غرور القوة، من جانب، على العقل السياسي الإيراني، فيما يخص المنطقة العربية بطبيعة الحال. والمضي، من جانبٍ آخر، في مشروع السيطرة الكامل على هذه المنطقة، مع أولويةٍ واضحة للجزيرة العربية، بكل مقوماتها المادية والروحية والبشرية. خاصةً بعد قناعة الإيرانيين أن ثمة ضوءاً أخضر عالمياً فيما يتعلق بهذا الموضوع، وأن بإمكان النظام الدولي التعامل مع واقعٍ إقليمي جديد بمعادلات جديدة ومُبتكرة يمكن من خلالها الحفظ على مصالحه. كل هذا، مع عدم استبعاد احتمال أن يكون (الإيحاء) بوجود الضوء الأخضر عمليةً إستراتيجيةً كبرى، يضمنُ من خلالها النظام الدولي توريط المنطقة بشكلٍ شاملٍ وسريع، اعتماداً على غرور القوة الإيراني المذكور.وأهم ما في الأمر أن الإيرانيين يُدركون، أو يَظنون، أن الخطوات التي سيكسبونها في مُحيطهم الجغرافي هي التي ستعود لتعطيهم إمكانية العودة للتقدم عالمياً خطوةً وخطوتين، ولو بعد عقدٍ من الزمن. فحسابات هذا الزمن لديهم ممتدة، وتُعبرُ عنها القصة التي تقول إن صانع السجاد الإيراني يُمضي خمس سنوات ليحيك السجادة، ثم إنه يفاوض على بيعها لمدة عشر سنوات!..من هنا، يُصبحُ مُلحاً ومطلوباً كسرُ حلقة التقدم الإيراني في المنطقة في الموقع الحساس الذي يُعتبر المفصل الجيوإستراتيجي الرئيس للمخطط الإيراني. فهذا ما سيُربك المُخَططَ بِأسرِهِ ويُخلخل حساباته وتوازناته. ويُقللُ بما لا يُقاس، مهما كان ثمنه، تكاليفَ لاحقة باهظة ستتحملها المنطقة في حال عدم إنجازه.المفارقةُ، بحسابات الربح والخسارة الدقيقة، أن إكمال ترتيباتٍ تخلق أمراً واقعاً جديداً في سوريا هي، في النهاية، أكثرُ جدوى من أي عمليةٍ أخرى. فالسوريون أثبتوا، مرةً بعد أخرى، قدرتهم على إنجاز المهمة دون الحاجة لأي دعمٍ من الخارج في مجال العمليات الأرضية. وباتَ معروفاً أن حداً أدنى من العون النوعي لهم سيجعلهم قادرين على اكتساح الأرض السورية ميدانياً.أما فيما يتعلق بالمسار السياسي الانتقالي وما بعده، فالمؤشرات وفيرةٌ على إمكانية (جمعِ) المعارضة السياسية والعسكرية على رؤيةٍ تتعلقُ به. فـ (الواقعية) تحكمُ اليوم صفوف تلك المعارضة بأكثر مما يتصور الكثيرون.. لهذا، يمكن جداً للرؤية المذكورة أن تتضمن ما يمكن أن تُقدمه الدول الداعمة للثورة على أنه (البديل) لنظام الأسد، وترتكز عليه في تحركها لخلق الأمر الواقع الجديد.هذه هي المعادلة الحساسة التي تسمح بفرض أمرٍ واقع: إرادةٌ سياسية لا تنتظر الإذن لتحقيق مصالحها، وإخراجٌ مدروس يأخذ بعين الاعتبار الخطوط الحمراء الكبرى. هذا أيضاً ما يمكن، على الأقل، أن نتعلمهُ من الدرس الإيراني.