16 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ أن استلمت حركة النهضة السلطة في تونس، رفعت في وجه المعارضة الليبرالية واليسارية وتكوينات المجتمع المدني الحديث شرعية الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وأنها هي الحركة التي حازت على الشرعية الانتخابية بواسطة الديمقراطية التي عبدت لها الطريق للوصول إلى السلطة. وإذا كانت صناديق الاقتراع منحت حركة النهضة فوزاً كبيراً في الانتخابات، فإنه لا يجوز للإسلاميين أن يعتبروا الديمقراطية بأنها مجرّد صناديق الاقتراع فقط، وبالتالي يسمحون لأنفسهم التبجح بأنهم أصبحوا حائزين على الشرعية المطلقة أو الشرعية المقدسة، وينسون، بالطبع، شرعية الثورة على حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، التي أتاحت لهم السيطرة على مفاتيح السلطة، رغم أن دورهم في الثورة كان هامشياً، بل إنهم ركبوا موجات هذه الثورة. وكان واضحاً منذ بداية الثورة على نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، أن هناك قوى ثلاثاً نجح تناغمها في إنهاء عهده: الحركة الشبابية، ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب اليسارية والقومية، والاتحاد العام التونسي للشغل، والجيش. وكان دور الجيش إيجابياً، في انحيازه للشعب رغم دعوات ابن علي إلى التدخل ضد ثورة الشعب، أما دور الإسلاميين، فاتسم بالانتهازية. والحال هذه، كانت الشرعية الثورية في معظمها من نصيب الحركة الشبابية التي لم تكن مؤطرة لا أيديولوجيا ولا سياسياً ولا تنظيمياً، لكن المشكلة كانت عدم التناسب بين قوة الحركة الشبابية الثورية وقوتها الانتخابية، لاسيَّما في ظل ضعف وتشتت أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية. ولكل هذا، فإن آخر من يحق له الحديث عن الشرعية والديمقراطية والانتخابات والصناديق هم إسلاميو حركة النهضة في تونس. ولكن حتى بمقاييس موازين القوى بين مكونات الثورة، فإن الانتخابات التي جرت في 23 أكتوبر2011 التي شكلت أساس الشرعية لحركة النهضة الإسلامية، لاحقا، لم تفز فيها النهضة في وجه معارضيها سوى بنحو 20في المائة، حيث إن 80 في المائة من الشعب التونسي ليسوا مع النهضة، من هنا فإن الحديث عن الشرعية الانتخابية لحركة النهضة في وجه المعارضة الليبرالية واليسارية، وحركة الشبيبة الثورية، والاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمات المجتمع المدني، يفقد الكثير من شرعيته. بالتالي، فإن ما يحدّد الديمقراطية لا يقتصر على صناديق الاقتراع، أو الشرعية الانتخابية فقط، كما تروج لذلك حركة النهضة الإسلامية، بل إنه يقوم بالدرجة الرئيسية على احترام المشاريع والتطلعات الفردية والجماعية التي تقرن بين التأكيد على الحرية الشخصية وبين الحق بالتماهي مع الشعب التونسي، من أجل تحقيق أهداف ثورته: بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ونصرة القضايا العربية، وفي مقدمتها تحرير الأرض العربية السليبة في فلسطين. لقد كان من الواضح في ذهن الإسلاميين الذين ينتمون لحركة النهضة، أنهم يستغلون لحظة تاريخية لن تتكرر، ليس لإرساء نظام ديمقراطي جديد في تونس باعتباره مطلباً ثورياً، وإنما لبناء دولة إسلامية بالتدرج، بعد أن تكون حركة النهضة قد «تمكنت » من السيطرة على مفاصل الدولة، وضرب القضاء، والإعلام، والصحافة، والاتحاد العام التونسي للشغل، والمنظمات النسائية الديمقراطية، لتعود بعدها إلى تصفية الحساب مع الجيش. بيد أن قبول حركة النهضة الإسلامية لنتائج الانتخابات التي فازت فيها، قد لا يتعدى فهمها الشكلي للديمقراطية بوصفها صناديق الاقتراع، ولم تع جيدّاً أن النظام الديمقراطي الجديد الذي تسعى الثورة التونسية إلى إرسائه هو كل متكامل، وصناديق الاقتراع واحدة من هذا الكل، لكن النظام الديمقراطي الذي يصبو إليه الشعب التونسي هو صيغة الحياة السياسية القائمة على الثقافة الديمقراطية، التي تزود العدد الأكبر من المواطنين بأكبر قسط من الحرّية، وهو الصيغة التي تحمي أوسع تنوع ممكن وتعترف به. لقد واجهت الديمقراطية الناشئة في تونس، تهديداً أولا من قبل سلطة حركة النهضة التي استخدمت نتائج صناديق الاقتراع لفرض إطاحتها بكل الانتماءات المجتمعية والثقافية، قاضية بذلك على الثقافة الديمقراطية التي تحترم الحريات العامة، والشخصية، والتنوع المجتمعي، قاضية بذلك على كل رديف أو عديل لسلطة الإسلاميين. وأصيبت الديمقراطية الناشئة بالانحطاط من خلال ممارسة الإسلاميين الانحراف الديمقراطي الذي يُعرِّفُ بالاستبداد المنتخب أو الانتخابي، عبر اعتقادهم بأنهم يمتلكون الشرعية الانتخابية، وأنهم يشكلون الغالبية المطلقة، وعلى أنهم يمثلون كل «الشعب»، وهم يحكمون باسمه، ويعتبرون المعارضة الليبرالية واليسارية، وتكوينات المجتمع المدني الحديث، والنقابات العمالية، أعداء وهامشيين من غير المواطنين، وأنهم منساقون وراء أفكار أجنبية أو رعاة للغرب. ثم هاجم الإسلاميون الديمقراطية الناشئة على جبهة ثالثة، من قبل نزعة ثقافية أصولية إقصائية تدفع إلى عدم احترام الأقليات السياسية إلى حدّ إلغاء فكرة الأكثرية ذاتها، وإلى حدّ الاختزال لفكرة الديمقراطية إلى شكلية صناديق الاقتراع، والعمل على تعزيز نشأة السلطة الإسلامية البديلة، وصوغ دستور يناسب أو بالأحرى على مقاس حركة النهضة الإسلامية. ولو كانت حركة النهضة الإسلامية راغبة فعلاً في إقامة نظام ديمقراطي ينقلها من مرحلة حركة نزلاء السجون إلى الحركة الشريك في السلطة، أو في المعارضة، كان عليها أن تتبنى برنامج الحد الأدنى للقاء القوى الليبرالية، والثورية، والنقابات العمالية، لتجسيد القطيعة المنهجية مع العنف السياسي، وحل ميلشيات «رابطات الثورة »، والكشف عن الجهة التي اتخذت قرار اغتيال الشهيد شكري بلعيد، والتوجه الصادق نحو صوغ دستور ديمقراطي توافقي، والعمل على إرساء نظام ديمقراطي جديد، ولا يشمل ذلك إطلاقاً أن تكون الجمعية التأسيسية وكراً للإسلاميين، لإعادة إنتاج نظام ديكتاتوري جديد في ثوب إسلامي، وبالتالي تنفيذ مخططاتهم المعادية لتطلعات الشعب التونسي في الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية. هذه التوجهات غير الصادقة من جانب الإسلاميين، وغير المؤمنة بالثقافة الديمقراطية في أبعادها المختلفة، التي تؤكد على الإيمان بالتعددية، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الرأي والرأي الآخر المعارض، وتبني وجهات نظر الآخرين، والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتوفيقية، هي التي أوجدت جوّاً من عدم الثقة والشك المتبادل بين حركة النهضة الإسلامية الحاكمة، وأحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية، الأمر الذي يجعل نتائج عملية التحول الديمقراطي في تونس، محلّ صراع، وعدم قبول من جانب المعارضة ومكونات المجتمع المدني. يستعير إسلاميو حركة النهضة من الديمقراطيات الغربية الراسخة تقديسها للانتخابات، مثلما يستعيرون حزمها مع أي قوة تريد قلب الأوضاع من خارج «اللعبة الديمقراطية». لكنهم يتجاهلون أمرين: المسار التاريخي الذي أدّى إلى هذا «التقديس» للعملية الانتخابية، والقواسم المشتركة للقوى السياسية التي تتداول السلطة فيما بينها، منذ أن استقرت هذه الديمقراطيات. لكن الإسلاميين لم يعوا جيداّ، أنه كل ما لجأوا إلى بناء الدولة الإسلامية وتنكروا لبناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، كلما أدّى هذا اللجوء باسم أيديولوجيا إسلامية ما إلى تعزيز سلطة حركة النهضة، وبالتالي كل ما أدّى إلى القضاء على استقلالية النظام الديمقراطي الوليد وإلى فرض علاقة مباشرة بين سلطة حركة النهضة وأيديولوجيتها الإسلامية الإخوانية، وعلى الأخص على فرض العلاقة بين الدولة التونسية والدين، كل هذا يقضي على الديمقراطية الناشئة. والأمر الذي لا يقبل الجدل هو أنه لا يجوز إطلاق صفة الديمقراطية على حركة النهضة الإسلامية لمجرّد أنها وصلت إلى السلطة بوساطة صناديق الاقتراع، لأنها حوّلت الشرعية الانتخابية إلى قناع لفرض ديكتاتورية دينية جديدة في تونس، مثلما لا يجوز إطلاق صفة الديمقراطية على ستالين "باني النظام التوتاليتاري" لمجرّد أنه كان « ثورياً»، أو على هتلر"باني النظام النازي" لمجرّد أنه فاز في الانتخابات عام 1933. لذلك قبل أن تستقر في تونس الديمقراطية الراسخة، التي تشتمل على قواعد التداول السلمي للسلطة، والفصل الحقيقي بين السلطات، ينبغي أن تظهر المساحة المشتركة بين الإسلاميين من حركة النهضة وباقي أطراف المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية، لجهة الإيمان الحقيقي بصوغ دستور ديمقراطي جديد يليق بالثورة التونسية، والتوجه الحقيقي نحو باء دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تلك هي المساحة المشتركة التي يمكن اعتبارها الشرعية الحقيقية للنظام الديمقراطي الجديد الناشئ. وعلى هذا الصعيد، لا يَنْفَع «لإخوان » تونس من حركة النهضة، نَعْتَ المعارضة التونسية بأنها مجرّد قوى متشرذمة وضعيفة تنظيمياً. فهي تمتلك قوة جماهيرية، ونخبوية، غير منظمة، بل إنها تمتلك الشرعية الشعبية، هذا ما أكدته جنازة الشهيد شكري بلعيد. وهذا ما يفسر الاضطراب الذي تلاقيه محاولات النهضة لفرض حكم إسلامي على تونس. أمام حركة النهضة الإسلامية في تونس، اليوم، خياران مكلفان: إما التوجه نحو فرض شرعية إسلامية جديدة على الطريقة الإيرانية، وهذا من باب المحال في واقع تونس، وإما القبول بإقامة دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تجعل خصومهم يقبلون بالاحتكام لصناديق الاقتراع.