12 سبتمبر 2025
تسجيلعندما يقدم علي ضيف فإنني أحدث أبنائي عنه وأهيئهم لاستقباله وليعرفوا له حقه وينزلوه منزلته، ومع كل موسم سنوي كالدراسة والإجازات والأعياد.. فإنني أحضرهم لذلك وأعدهم له بالاستعداد وتقرير دور كل واستحقاقاته وواجباته.. فهل إذا قدم علينا رمضان ننسى أن نتحضر له وأن نتعرف عليه؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رمضان يذكّر أصحابه ويهيئهم له بقوله " قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر؛ من حرم خيرها فقد حرم ".. وأسأل نفسي؛ إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة لهذه التهيئة؛ وهم الذين كانوا معه على جهاد دائم واجتهاد ومواكبة متواصلة للأحداث يصنعونها معه ويسجلون وإياه للتاريخ ما لا نزال نعتز به ولا تزال البشرية بكل ألوانها وأطيافها مبهورة بروعته بعد أزيد من ألف وأربعمائة سنة، وبالتأكيد لم يكونوا غافلين ولا مضيعين لعباداتهم وشعائر دينهم وعلى العكس من ذلك كانوا يجهدون أنفسهم في العبادات ويقدمون الشاق منها على المريح المحبوب ما اقتضى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.. " ؛ أقول: فإذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وهذا حالهم من العبادة والاجتهاد ؛ فماذا سيكون حاله لو رآنا اليوم ورأى ما نحن عليه وما نحن بحاجة إليه.. ونحن - نحن - في التقصير والشر والانحراف؟ وأقول: جدير بنا ونحن على بوابة هذا الشهر أن نتذكر أنه الشهر الذي تتوحد فيه الأمة الإسلامية وتجتمع على وجهة واحدة شعوريا عاطفيا ومشاعريا دينيا، ميزة هذا المعنى في أن أعداء الأمة طالما حاولوا وحرصوا على تفريقها وتمزيقها وربما نجحوا لما في أيديهم من إمكانات في بعض وجوه ذلك خصوصا فيما مضى ؛ لكن الأمة اليوم تتوحد وليس على قومية ولا عرقية ولا مصلحية بل على شعيرة عبادة ووجهة دين تلتقي عليه الأمة بكل ألوانها وجنسياتها وجغرافياتها.. لقائل أن يقول: لكن المسلمين لا يجتمعون على أول الشهر ولا على آخره ؛ بعضهم يتأخر يوما أو يومين في حساب أول الشهر أو في حساب آخره! ولقائل أن يقول: والمسلمون ليسوا كلهم يصومون وإن صاموا فليسوا كلهم يفقهون معنى الصيام.. وأقول: هذا صحيح وهو من الكيد الذي " نجح " فيه الأعداء، لكن ؛ لو تجاوزنا اليومين الأولين من الشهر واليومين الأخيرين منه ونظرنا إلى الستة والعشرين يوما المتبقية منه، ولو تجاوزنا القلة الذين لا يصومون فسنجد المسلمين كلهم صائمين؛ أليس هذا جمع لكلمة المسلمين وتوحيد لمشاعرهم وشعائرهم؟ أما أنهم لا يفقهون معنى الصيام ؛ فهذا صحيح إلى حد بعيد.. هذا لا يعني أنني أقر الاختلاف أو أنكر وجوده فيما يتعلق بأول الشهر وآخره.. وقبل أن أغادر هذه النقطة لا بد من توضيح المسألة فقهيا وفكريا وببساطة وأقول: الخلاف هنا - وبالقطع لا الظن - ليس لزيادة تدين المخالفين واجتهادهم في موضع الاجتهاد ومحتملاته ؛ ولكنه " لكبر رأسهم " وأنفة من أن يعلن الصيام غيرهم.. وليس لأحد اليوم أن يحتج باختلاف المطالع لتأخير إعلان بداية الشهر أو تقديمه.. والمسألة بينة واضحة محسومة في نقطتين لا يختلف عليهما إلا صاحب هوى ؛ النقطة الأولى هي: أن بداية الشهر ونهايته محسوبتان ومرتبطتان بحدث فلكي كوني لا يخص دولة دون أخرى وهو عام لكل الدنيا لا لدولة دون أخرى والحدث هو " رؤية الهلال ".. والنقطة الثانية: هي أن رؤية جمع ثقاة مسلمين أقلهم اثنان عدلان في أي بلد تكفي لإثبات الصيام وهي حجة على من سواهم في مشارق الأرض ومغاربها؟ ولكنه المكر والكيد والنفوس المريضة بالكبر والبعاد عن الأمة وحب الظهور والجهل والذي يجعل الواحد منهم يرى ذاته ورأيه أكبر من الأمة ومن اجتماعها ومن دينها وشعائرها وأكبر من هذا الركن الركين في الإسلام.. أعود لقضية أن الكثيرين لا يفقهون معنى الصيام وأقول: هذا صحيح ؛ وجدير بنا ونحن على بوابة هذا الشهر المبارك أن نؤكد أن رمضان في الوجدان الإسلامي عموما – والحكم للأعم الأغلب - هو شهر القرآن وشهر الإسلام وشهر تأكيد الولاء والبراء على أساس توجيهاته وتكاليفه وأحكامه في سلوكنا ومفاهيمنا وقناعاتنا.. ومع ذلك فالعجب من بعض ضيوف القنوات الفضائية الذين يتحدثون بمناسبة قرب الشهر المبارك وهم مثال للسيئ المنتقد في فقه معنى الصيام ومردوداته على السلوك ؛ أحدهم جلس في مقابل مذيعة لم تكتف بكشف شعرها وتبرج وجهها وألوان الملابس التي اختارت أن تلبسها، ولكن في مقابل مذيعة لبست ما يكشف ذراعيها وبعض صدرها وما ينحسر عن ركبتيها.. وكأنها تقصدت إهانة معنى الاستضافة وتقزيم صورة الضيف الذي ليس له عذر في تقبل ذلك.. وما قيمة أن يتحدث عن عظمة صيام نهار رمضان وعن روعة قيام ليله وعن أنه السبيل الأقصر إلى ولوج الجنة.. وآخر اعتدنا أن نسمعه يرفض بشراسة حكم الإسلام في مصر، وطالما سمعناه يهاجم الإسلام السياسي ويبشر باللبرالية المسفوحة في مصر بعد " البرلمان الإسلامي " و " الرئيس الإسلامي " هذا الآخر أعلن - قبل يومين - أنه سيتوجه في رمضان إلى مشاهديه بحديث يومي عن الإسلام وعن نفسه وكتبه وإبداعاته – أو بدعه - في الإسلام.. أرجو ألا يظن أحد أنني أتحدث عن شخص مجرد مخالف في الرأي.. وإلا كنا بالفعل في وارد غير وارد الإسلام الذي يأمر بالحشمة ويقيم العلماء قدوات فيما يقولون وفيما يفعلون.. مشكلة بعض " وربما الكثير " من المسلمين اليوم أنهم تعلقوا بشكل الدين دون جوهره، وأنهم يصومون صوم الامتناع عن الطعام والشراب (أي عن الحلال ولكنهم لم يصوموا عن الحرام ؛ ولم يصوموا عن فاحشة القلب من كره وكبر وشهوة فاجرة، ولا عن فاحشة العقل من شبهة في الرأي وبدعة في الدين ومن ولاء في غير طاعة الله وعداء لغير مكاره الله تعالى، ولم يصوموا عن فاحشة القول ؛ الغيبة والنميمة وشهادة الزور والتطاول على الناس.. ولا عن فاحشة الفعل والعدوان على حمى الله تعالى ومحارمه وأموال وأعراض ودماء الناس.. جدير أن نتذكر ونحن على أعتاب الشهر الفضيل أنه شهر الانتصارات الكبرى للمسلمين عبر سنوات وأزمان من تاريخه ؛ فقد كانت المعارك الفاصلة في تاريخ هذه الأمة في رمضان دائما وبالتأكيد ليس ذلك عن خبط عشواء أو عن مصادفة – ففي رمضان كانت غزوة بدر وفتح مكة - أول الغزوات وآخرها - ضد معقل المشركين في مكة، ما كسر شوكة مشركي الجزيرة العربية كلها ومهد للإسلام موطنا وأمنا للانطلاق في الدوائر الأوسع، وفي رمضان كان فتح عمورية ومعركة حطين اللتان حطمتا كبرياء الصليبيين وأوقفتا زحفهم وقلبت النصر عليهم حتى بودل الأسير الصليبي برباط نعل مسلم في النهاية، وفي رمضان كانت معركة عين جالوت التي كان شعارها " واإسلاماه " والتي ردت وكسرت شوكة التتار الذين سبق أن أفسدوا في الأرض وقتلوا كل حياة وظن الظانون أنها نهاية التاريخ.. ولسنا ننسى أن النصر الكبير في عصرنا الحاضر على العدو الصهيوني كان في رمضان 1973 ؛ فهل عرفنا لماذا جاءت آيات القتال والجهاد عقب آيات الصيام مباشرة في سورة البقرة؟! وهل لمحنا علاقة العزيمة على الصيام بالعزيمة على القتال؟ وعلاقة الصائمين العابدين بانتصارات الأمة وصناعة تاريخها؟! آخر القول: بالتأكيد لو أردنا أن نستفيض في تسجيل خواطرنا حول رمضان ومكانته في الوجدان وما ينبغي أن يجريه من تغييرات في واقعنا الشخصي الخاص والإسلامي العام لما كفانا مقال ولا مقالات.. ولكنها محاولة لتلمس جانب مما لا يدرك كله ولا يترك جله.. نسأل الله تعالى أن يقسم لنا صيام يومه وقيام ليله وأن نفهمه كما فهمه من سبقونا في الخير من أجيال هذه الأمة ؛ رمضان الانتصارات ورمضان حسن الالتزام ورمضان وحدة الأمة.