13 سبتمبر 2025
تسجيلكنت أنوي الحديث عن الشخصيات التي اشتهرت بكذبها بترتيبها التاريخي، ولكنني وجدت أشهر هذه الشخصيات على الإطلاق مسيلمة الذي ألصقت به كلمة الكذاب، فبات يعرف بها.وأبدأ بمسيلمة لأنه كان سببا رئيسيا في حرب اليمامة التي حدثت إثر وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكانت من أخطر الحروب في التاريخ الإسلامي، حيث وقف الصديق في حروب الردة صلبا قويا أمام الكذابين والمرجفين ليمهد الطريق من بعده لعمر بن الخطاب ليرسي العدل وينتشر في البلاد طولا وعرضا.تتحدث الروايات التاريخية أحاديث متشابهة عن مسيلمة الكذاب، وذكرها يعد ضربا من التكرار، ومن ثم فالبحث عن تحليل هذه الشخصية الكاذبة أولى من البحث في سيرتها، لأنها شخصية تتكرر في كل الأزمان، ومفتاح هذه الشخصية نابع من حب الظهور بين الناس، مما جعله ينسج الأكاذيب والأساطير منذ فترة كبيرة، ومما يؤثر في ذلك هذا الحوار الذي كان بينه وبين سيدنا عمرو بن العاص –رضي الله عنه – حيث ذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو، ماذا أنزل على صاحبكم - يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة فقال: وما هي؟ فقال: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [سورة العصر]، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وقد أنزل علي مثله. فقال: وما هو؟ فقال: "يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر، كيف ترى يا عمرو؟ "فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لتكذب".إن هذه القصة على طرافتها يمكن أن نستخلص منها ما يأتي:أولا: إذا كان عمرو بن العاص –رضي الله عنه- مشهورا بالذكاء والفطانة فيبدو أن مسيلمة كان مشهورا أيضا بالكذب في الحديث.ثانيا: إن الدراية باللغة لم تكن خافية على الاثنين، ولذلك لم يحتج الأمر إلى عناء كبير حتى يعرفوا الفرق بين القرآن الكريم وبين ما يقوله مسيلمة.ثالثا: فإذا كان مسيلمة يعلم أن عمرو يعلم أنه كذاب فلماذا عرض عليه هذه الكذبة؟في الحقيقة هو لم يعرضها على عمرو كي يكذبها أو يصدقها، وإنما يختبر حال المتلقي إذا سمع هذا الكذب، هل سيصدقه أم لا؟ وعمرو بن العاص من صفوة المتلقين، فإذا قبلها عمرو وأعجب بها، فقد نجح الكذاب في نسج كذبه، وإذا لم يعجب بها فعليه أن يعيد ضبط إيقاع الكذب ليدخل العقول فتقتنع به.هذا هو التحليل المنطقي الذي أراه، ولكن مسيلمة أدرك أن فئة من العقول ستنكر ما يقول، وهي الصفوة، وعليه الآن أن يوجه كذبه لشريحة أخرى من الناس تكون فاقدة لذائقة اللغة، غير محسة ببواطن الجمال في الكلام، وهذه الفئة هي التي ستتبعه فيما بعد. وهذا نستنتج منه أنه كانت شريحة كبيرة من المجتمع في ذلك الوقت عقلها في أذنيها تصدق ما تسمعه ومن أجل ذلك حذر الله من هذه الشريحة التي قال الله عنها، (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم)، والخطاب هنا موجه للمسلمين الذين خرجوا في القتال بغزو تبوك، فما بلك بغير المسلمين، إنهم سيكونون أكثر استعدادا وتهيئة لسماع الكذب.إذا اعتمد مسيلمة الكذاب على هذه الشريحة من أهل اليمامة لتقبل كذبه، فكيف ظهر فيهم من الأساس، وما قصة صعوده حتى يكون له أتباع بهذا الكم الغفير، لذلك حديث آخر إن شاء الله.