19 سبتمبر 2025
تسجيلفي هذه الأوقات من كل سنة، تزداد هموم الناس من ناحية إيجاد فرص عمل للشباب والشابات المتخرجين من المدارس المهنية والتقنية كما من الجامعات. تخرج معاهد وجامعات العالم ملايين الأشخاص حاملين أهم الشهادات في مختلف الاختصاصات. تكمن المشكلة اليوم في صعوبة إيجاد فرص عمل لهؤلاء الشباب بالرغم من الكفاءات العالية التي يتميزون بها. تكمن الصعوبة في الأوضاع الاقتصادية المتعثرة دوليا، إذ ليست هنالك دولة واحدة لا تعاني من مشاكل معقدة نتيجة الإهمال والفساد وعدم الاهتمام بمصالح الشعوب وخاصة الأجيال الجديدة. هنالك عودة إلى بعض النمو في العديد من الدول، إلا أن هذا لم ينعكس بعد ارتفاعا في عدد الوظائف أو انخفاضا واضحا في مؤشرات البطالة. تشير الوقائع الحالية إلى انفصال تام بين النمو والبطالة، وهذا جديد ويدل على وجود هيكليات جديدة يتمتع بها الاقتصاد الدولي ليست بالضرورة لمصلحة الشباب. لبنان هو أحد المجتمعات التي ستعاني أكثر من ندرة فرص العمل الجديدة ليس فقط بسبب الاقتصاد العالمي المتعثر وإنما أيضا بسبب أوضاع المنطقة بالإضافة إلى أوضاع الداخل المرتبطة بملف تشكيل الحكومة والفساد والإهمال المتراكم. ما هي واجبات الدولة أي دولة في ظروف دولية ومحلية قاتمة لمساعدة الشباب والشابات على إيجاد فرص عمل كافية ونوعية؟ ليس المهم فقط إيجاد فرصة العمل وإنما مستوى الأجر وهيكلية المنافع والأنظمة والحقوق بالإضافة إلى تحديد الواجبات العادلة والمناسبة. في دولة لا يجد الشباب وظيفة لهم، يصبح الجو العام قاتما ويغيب التفاؤل ويرتفع مستوى القلق على المستقبل. في دولة لا تجد الأجيال الجديدة فرصة عمل لها فيها، لا يكون هنالك مستقبل واعد لها بل يجب أن تطرح أسئلة حول مصادر المشكلة أهي اقتصادية أم تربوية أم اجتماعية أم هيكلية أم غيرها؟ هل تقف الدولة مكتوفة اليدين أمام هذه التحديات أم يكون لها دور رائد في إيجاد الحلول التي تسمح للعرض والطلب بأن يلتقيا على مؤشرات واعدة وخيرة. طبعا المطلوب تنشيط عمل القطاع الخاص كي يستوعب العمالة الجديدة، إذ إن القطاع العام لا يمكن أن يحل المشكلة بشكل مباشر وإنما عبر قطاع الأعمال. في الولايات المتحدة مثلا، عاد النمو بعد غيابه نتيجة الأزمة المالية العالمية أمريكية المصدر. عاد الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى سنة 2007 لكن مع 7 ملايين فرصة عمل ناقصة. بسبب التقدم التكنولوجي وارتفاع إنتاجية العامل، تمكن الاقتصاد الأمريكي في سنة 2010 من إنتاج نفس كمية سلع وخدمات سنة 2007 لكن مع عدد عمالة أقل بكثير. لاستيعاب العاطلين عن العمل والقادمين الجدد إلى السوق لا يكفي أن يحقق الاقتصاد بعض النمو، لكن عليه أن يحقق نموا قويا متواصلا لسنوات قادمة. في أمريكا تضاعف عدد العاطلين عن العمل منذ سنة 2007، إلا أن عددهم بدأ بالتناقص مؤخرا نتيجة النمو الحديث لكن ببطء. قال الكاتب اللامع الأمريكي والهندي الأصل " فريد زكريا " في مقال له في مجلة " التايم ": إن معظم الوظائف الجديدة هي لدوام جزئي وبالتالي ذات دخل جزئي أيضا. يقدر " زكريا " معدل الدخل السنوي لهذه الوظائف بـ 19 ألف دولار أي أقل من نصف الأجر الوسطي الأمريكي. لا شك أن أزمة العالم اليوم هي أزمة فرص عمل تنعكس سلبا على كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وحتى السياسية. كيف تمكن مواجهة أزمة من هذا النوع وما هي الخطوات المحددة التي يجب اتخاذها من قبل القطاع العام والمؤسسات الخاصة والعامة ليس في لبنان فقط وإنما في جميع الدول؟ أولا: الاهتمام بشؤون الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تبقى ركيزة التطور والتجدد في كل الاقتصادات بما فيها الكبيرة. في الولايات المتحدة مثلا، بين 60 و80% من فرص العمل الجديدة الصافية تنبع من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تكون 70% من الادخار الوطني العام. في لبنان، تقريبا جميع فرص العمل تخلق في هذه الشركات التي تكون عمليا كل الاقتصاد. عندما تفهم الدول والحكومات تحديدا كيف يفكر قطاع الأعمال، يمكن لها أن تساعده في النجاح والتطور وبالتالي في تخفيف البطالة. ماذا يريد قطاع الأعمال؟ حكما الاستقرار السياسي والاجتماعي والقانوني والمؤسساتي أي مناخ مناسب للاستثمارات والتجارة والتمويل. كيف يمكن لقطاع أعمال أن يزدهر في مجتمع لا يستطيع تغيير حكومة ولا يحترم مؤسساته وقوانينه ولا يملأ المراكز الشاغرة الأساسية في الدولة؟ ثانيا: تطوير الصناعة حتى في أعرق الاقتصادات وأقدمها. تشكل الصناعة حوالي 22% من الاقتصاد الأمريكي و28% من الألماني و47% من الصيني وفقط 8% من حجم الاقتصاد اللبناني. تكمن أهمية الصناعة في استيعابها الكبير لكل تطور تكنولوجي مما يرفع من إنتاجيتها ويخفض من تكلفة الإنتاج وبالتالي تتوسع أسواقها ويزداد حجمها. فالصناعة تحتاج إلى عدد من العوامل التي لا يمكن أن تعيش من دونها كالكهرباء واليد العاملة المتخصصة والمنتجة. كي تبنى هذه العمالة المناسبة لا بد من تطوير معاهد التكنولوجيا أو التخصص المهني الذي يهيئ قاعدة الإنتاج التي تبقى إنسانية قبل كل شيء. ثالثا: تمويل التدريب عبر القطاعين العام والخاص. بسبب التطور العلمي والتكنولوجي، لا يمكن استيعاب العاطلين عن العمل من دون تهيئتهم وتدريبهم على الجديد بحيث يستطيعون المنافسة في سوق العمل. فالتدريب لا يقتصر فقط على العاطلين عن العمل وإنما أيضا على العاملين الذين يجب أن يتطوروا مع تقدم العلوم والتكنولوجيا بحيث ترتفع إنتاجيتهم ويستمرون في عملهم. إذا لم تكن الشركات الصغيرة والمتوسطة قادرة على تمويل هذا التدريب المفيد ليس فقط لها وإنما للاقتصاد العام، من واجب الحكومة أن تساعدها مباشرة أو عبر تحفيزات ضرائبية مركزة وسخية. رابعا: تحديد قطاعات النمو وتحفيزها. في كل اقتصاد هنالك قطاعات واعدة يجب على القطاع العام أن يساعدها ليس بالضرورة ماليا وإنما عبر توسيع الأسواق والإرشاد. هنالك اقتصادات تنجح في التكنولوجيا العالية وأخرى في الخدمات وبعضها في الزراعة كالصين التي يشكل القطاع الأولي 10% من ناتجها. في لبنان، هنالك قطاعات واعدة في الزراعة والصناعة والخدمات منها صناعة المجوهرات وألبسة المصممين المنفردين الذين ينافسون أكبر صانعي الألبسة في العالم. هنالك صناعة المأكولات وتجميع المعدات الكهربائية والصناعية بالإضافة إلى الخدمات المميزة التي اشتهر بها لبنان كالمصرفية والتعليمية والاستشفائية وغيرها. عندما تتضح صورة القطاعات الواعدة، يسهل عندها تحديد السياسات المناسبة. هذا لا يعني أن يتوقف العمل لتنشيط القطاعات الأخرى، إنما هنالك دائما أولويات في كل مجتمع تنبع من التاريخ والإنسان والقانون والمجتمع والإمكانات. خامسا: إيجاد فرص عمل سريعة لتخفيف الأوجاع عبر وصل العارض بالطالب ليس فقط عبر الشركات الخاصة وإنما عبر الدولة. من السهل التنظير في موضوع البطالة إذ إن الإجراءات الفاعلة تأخذ الوقت الطويل كي تكون مؤثرة على المؤشرات. المطلوب بالإضافة إلى ما سبق، معالجة سريعة لأوضاع العاطلين عن العمل بانتظار أن تجدي الوسائل الأخرى. من هذه المعالجات، بالإضافة إلى التعويضات وتمويل التدريب، تشجيع الشركات على التوظيف عبر التحفيزات الضرائبية والتمويلية والتسويقية. لا يمكن للحكومة أي حكومة أن تتفرج على أوجاع العاطلين عن العمل، بل عليها إراحتهم ماديا ونفسيا بانتظار تحسن الأوضاع العامة وهذا يتطلب قيادات واعية مسؤولة تحسن اختيار السياسات المناسبة لمصلحة الأجيال الجديدة. هل تتوافر هذه القيادات في لبنان؟