28 أكتوبر 2025

تسجيل

فيلم (إلى أبناء الوطن).. مشاهدات.. وتحية للأمير الوالد

19 مايو 2024

على مدى ساعة وربع الساعة شاهدت وتأملت مضامين فيلم «إلى أبناء الوطن»، وأول ما جذب وشدّ اهتمامي أن وقائع الفيلم اتسمت بالحيوية، وبدت زاخرةً بشهادات تاريخية حيوية، وفي الوقت نفسه فإن الأجواء التي أشاعها مناخ الفيلم فتحت ورسمت أوسع فرص التأمل، لاسترجاع شريط أحداث وتطورات وتحولات كبرى، خصوصاً لدى من عايشوا عن قرب تفاصيل المرحلة وتحدياتها وتابعوا مساراتها ولمسوا ثمارها اليانعة. الفيلم نجح في أن يروي ويوثق حقائق تاريخية مشرقة، هي من نبض قائد تصدى بجسارة ونهج تجديدي فصنع تاريخاً مجيداً يفخر به شعبه، كما فرض بإرادته وإنجازاته ومواقفه مكانة متميزة لوطنه وشعبه بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والعالمين العربي والإسلامي والعالم، وفي كل الأوساط التي تُدرك أهمية التحولات الإيجابية الكبرى في حياة الشعوب. السؤال الأهم في هذا السياق: من أين استمد ما حققه سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني هذا التوهج والبريق والجاذبية الباهرة؟. بالعودة الى اليوم الأول لتولي سموه مقاليد الحكم في 27 يونيو 1995، أعلن ما أصفه بفلسفته السياسية أو نهجه السياسي الذي يكمن في اعتماد الإصلاح الشامل طريقاً للتغيير. من أبرز الأدلة النوعية على هذا النهج الاصلاحي الشامل جاء الدستور الدائم الذي أصدره سموه في الثامن من يونيو 2004 كأول خطوة من نوعها في تاريخ قطر، بعدما تمت الموافقة عليه باستفتاء شعبي هو الأول من نوعه في 29 أبريل 2003، وقد نص ضمن أبوابه الخمسة على أسس الحكم وكيفية تنظيم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحقوق والواجبات، ومن أهم مضامينه أنه شدد على (المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار). ويعرف المتابعون للشأن القطري أن سموّه كان قد خطا خطوة مهمة بإصداره قراراً في 13 يوليو 1999 بتشكيل لجنة لإعداد الدستور من (32) عضواً وضمّت مفكرين وأكاديميين وخبراء، وهذا أيضاً يؤشر إلى نهج إيجابي تمثل في استثمار قدرات أهل الخبرة والمعرفة بالتجارب الدستورية لخير الوطن. استمرت مسيرة التحولات والإنجازات الكبرى وسطع نجم دولة قطر محلياً وخليجياً وعربياً واسلامياً ودولياً ثم جاء الموقف التاريخي غير المسبوق. وفي خطوة تاريخية ووطنية ويوم مشهود عزز سموه خطاه التي انطلقت من رؤيته الوطنية التجديدية الإصلاحية التي تؤمن بدور الشباب في التغيير، في خطاب تنازله وتسليمه مقاليد الحكم لحضرة صاحب السمو الأمير المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في 25 يونيو 2013، حيث استهل سموّه خطابه مخاطبا شعبه بقوله (نحن نستعد لدخول عهد جديد في تاريخ وطننا، وقد أردت أن أخاطبكم أولاً إذ أنتم أصحاب هذه الأرض الطاهرة وحماتها وبناة نهضتها وصانعو مستقبلها). وبنبض المكاشفة والصدق قال (الله يعلم أنني ما أردت السلطة غاية في ذاتها ولا سعيت إليها من دوافع شخصية، بل هي مصلحة الوطن أملت علينا أن نعبر به إلى مرحلة جديدة. ولقد حان الوقت أن نفتح صفحة جديدة أخرى في مسيرة وطننا يتولى فيها جيل جديد المسؤولية بطاقاتهم المتوثبة وأفكارهم الخلاقة). وقال سمو الأمير الوالد في خطابه إن (شبابنا أثبت في السنوات الماضية أنهم أهل عزم وعزيمة يستوعبون روح عصرهم ويدركون ضروراته إدراكاً عميقاً ويواكبون كل جديد فيه، بل يساهمون بفكرهم الأصيل في التجديد والإبداع). كما قال سموّه (أنا على قناعة تامة أنه أهل للمسؤولية، جدير بالثقة، وقادر على حمل الأمانة وتأدية الرسالة، وإنني على يقين راسخ بأنكم ستكونون خير سند له كما كنتم معي، فما بين الحاكم وشعبه في وطننا من عهود الوفاء والمحبة والود عميق وأصيل عمق وأصالة تراثنا وتاريخنا المجيد، وإنني على يقين أيضا أن تميم سيضع مصلحة الوطن وخير أهله نصب عينيه وستكون سعادة الإنسان القطري غايته الأولى على الدوام). نبض التغيير والتحديث • هكذا تجلى نبض التغيير والتحديث والدعم الكبير للخُطى الواثقة نحو المستقبل حينما قال لشعبه (يا أبناء الوطن تنتقلون إلى عهد جديد ترفع الراية فيه قيادة شابة تضع طموحات الأجيال القادمة نصب عينها وتعمل دون كلل أو ملل من أجل تحقيقها مستعينة في ذلك بالله أولاً وبأبناء الوطن وبما اكتسبته من خبرة ودراية في الحكم وإدارة شؤون البلاد ومعرفة عميقة بالواقع في منطقتنا وعالمنا العربي بالذات). الوفاء لمن قدموا الجهد والعطاء سجل حضوراً وعكس نبض التقدير للشعب ومن آزروه في تنفيذ خطط التغيير، إذ توجه بالشكر الى ( أهل قطر الذين كانوا معي طوال المسيرة وساندوني وكانوا خير عون لي في الظروف الصعبة وساعدوني في مواجهة التحديات) وشكر وعبّر عن تقديره أيضا (لكل الذين عملوا معي من قرب حيث كانوا خير سند ومعين في الشدة وفي الرخاء، وأشكر كذلك قواتنا المسلحة وجيشنا الأبي على الدور المشرف الذي قام به أثناء قيادتي له، ولن أنسى ما حييت إخلاصكم جميعايا أبناء وطني). هذا الخطاب التاريخي مهم للتوثيق، ونحن محتاجون دوما لقراءته وتأمل دلالاته وأبعاده، وخصوصا الجيل الجديد. هذا يؤشر إلى أن عطاء الأمير الوالد نبع من رؤية عميقة الجذور وشكّل علامة فارقة في تاريخ قطر والمنطقة، واستمد أهميته وحيويته من أهدافه الكبرى وانجازاته المحسوسة والملموسة التي تجاوزت الشعارات الجوفاء التي نسمعها في مناطق عدة في العالم، وقد شكلت خريطة الفعل وبصمات الانجاز التي قرنت الأقوال بالأفعال ملحمة وطنية تستحق أن توثق كما فعلت بنجاح واقتدار وابداع مؤسسة الدوحة للأفلام التي أنتجت الفيلم. شهادات حيوية لعطاء مدهش • الفيلم تناول أوجه الانجاز الباهر لمسيرة الأمير الوالد، في مجالات شملت السياسة والدبلوماسية وانجازات النفط والغاز والاقتصاد والمال والإعلام والخدمات كالصحة والتعليم مثلاً، ومشاريع البنية التحتيّة، ويشمل ذلك المواقف المبدئية التي قرنت الأقوال بالأفعال خصوصاً قضايا المنطقة وفي صدارتها حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. الفيلم تميز بالشهادات الحيوية للشخصيات التي تحدثت عن عطاء الأمير الوالد، وهم أبرز معاونيه ويعرفون قبل غيرهم كيف انطلقت مسيرة النجاح ولماذا أثمرت خيراً على أرض الواقع، أي أن المضمون يستمد أهميته من المعايشة والتفاعل اليومي. الأمير الوالد قدم عطاءً مدهشاً في مجالات عدة استناداً إلى رؤية ثاقبة وواضحة، وعزيمة وإرادة فولاذية لا تلين أو تنكسر، بيد أنّي أرى أن العنوان الأبرز الذي أضفى على المسيرة رونقها وبهاءها ونضارها وجاذبيتها وتميزها في المنطقة وصنع منها مثالاً يُحتذى به يكمن في نبض الإصلاح الذي كان المحرك الأول لمسيرة التحديث والتجديد في سبيل ارتياد آفاق العصر. من أدلة الاصلاح على سبيل المثال مشاركة المرأة الفاعلة ودورها الايجابي في بناء المجتمع، وقد برزت بصماتها بوضوح في الفيلم، وقد عبّرت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر عن الدور الريادي الذي قاده سمو الأمير الوالد تعبيراً رائعاً من خلال مبادراتها واطلالاتها في ميادين المشاركة. ولعل أحدث دليل على حيوية دور المرأة أن الفيلم بإشراف سعادة الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني، رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدوحة للأفلام ومتاحف قطر، ومن إخراج روضة آل ثاني وأمل المفتاح. رؤية تتفاعل مع طموحات شعوب الخليج • وهنا يبرز سؤال عن دور سموه على الساحة الخليجية؟ تجربتي في مجلس التعاون لدول الخليج العربية من (6 أبريل 2002 إلى 31 مارس 2011)، أتاحت لي أوسع فرص الاطلاع على اسهامات سمو الأمير الوالد الخليجية من واقع المعايشة والتفاعل المباشر. فقد دعم سمو الأمير الوالد مجلس التعاون دعماً كبيراً، وكان يشدد ويدعو الى تطوير المجلس وإصلاح مساره ليحقق تطلعات شعوب المنطقة، وكان نهجه في القمم الخليجية ينطلق من دعوة مستمرة الى حوار خليجي – خليجي لتطوير مؤسسات مجلس التعاون. مواقف سمو الأمير الوالد خلال فترة عملي أميناً عاماً لمجلس التعاون، انطلقت من رؤية وصفتها في تاريخ سابق من خلال تصريحات نُشرت في صحف عدة بأنها تتفاعل مع طموحات شعوب المنطقة، وكانت رؤية سموه قد شكلت بعداً حيوياً لم يغفل نبض الشعوب التواقة للتغيير والتحديث، وكان سبّاقا بهذا الطرح الريادي المُواكب لروح العصر. أعيد للأذهان على سبيل المثال، وقائع الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي عقدت في الدوحة برئاسة سموه في21- 22 ديسمبر 2002 وحضرت القمة اذ كنت أمينا عاما لمجلس التعاون. القمة شهدت تحقيق مكاسب مهمة، كان من أبرزها أن المجلس الأعلى بارك قيام الاتحاد الجمركي لدول المجلس اعتباراً من الأول من 2003 وكان تم إعلانه في قمة بمسقط، وقد اعتمدت قمة الدوحة ما اتفقت عليه لجنة التعاون المالي والاقتصادي من خطوات في هذا الشأن، وكان الهدف الأكبر أن تنساب حركة السلع بين دول المجلس وزيادة التجارة البينية وازالة المعوقات الجمركية، كما وجّه القادة باستكمال متطلبات السوق الخليجية المشتركة، والتي أعلن عن قيامها في الدوحة في 2007. كما شهدت قمة الدوحة أيضاً في دورتها الثالثة والعشرين انطلاق مشروع التطوير في مجال التعليم، مستلهمة مرئيات سموّه بوضع خطة مشتركة لتطوير التعليم وضرورة الارتقاء بنوعيه التعليم والتدريب، وتوجيه المؤسسات لتحسين مخرجاتها بما يكفل تعديل وتطوير مناهج التعليم لتواكب متطلبات المجتمع في العصر الحديث. خطوات عملية للتطوير • هذا معناه أن رؤية سموّه للتطوير والاصلاح والتغيير الشامل كانت متعددة الأبعاد، إذ بدأت أولاً على الصعيد المحلي بخطوات عملية، ثم انطلقت على الساحات الخليجية والعربية والإسلامية ثم إلى المجتمع الدولي، اذ كان من أبرز دعاة تطوير وإصلاح الأمم المتحدة لتنتصر لحقوق الشعوب المظلومة وفي صدارتها الشعب الفلسطيني المظلوم والمناضل في سبيل الحرية والكرامة. وفي إطار رأيي بشأن أبعاد رؤية سموّه الإصلاحية الشاملة، أذكر على سبيل المثال أيضا ما شدّد عليه لدى مخاطبته الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الديمقراطية والاصلاح في العالم العربي في الدوحة في عام 2004 إذ قال (لم يعد مقبولا أن يُتخذ الصراع مع إسرائيل أو انتظار السلام معها ذريعة تبرر التباطؤ في الإصلاح، ذلك قد طال وقد يطول أكثر، خاصة أن الغضب العربي لا تحركه القضية الفلسطينية بمفردها وانما له روافد داخلية عميقة تمس صميم الأداء السياسي والاقتصادي في المنطقة، ولم يعد مقبولاً أيضا التذرّع أمام العالم بالحرص على مصالحه في منطقتنا والقول بأن الاصلاح لو انطلق سوف يزعزع الأمن ويهدد الاستقرار فيها بعد أن اكتشف هذا العالم بنفسه في السنوات الأخيرة أن مخاطر عدم الاصلاح تفوق بكثير كل المخاطر التي قد تصاحب القيام به). ما أروعها من رؤية.. نبض سموه الإصلاحي سعى بخُطى عملية واثقة لمواكبة روح العصر، بتحولات داخلية شملت كل مجالات الحياة كما ذكرت وبينها بناء الانسان، وتطوير التعليم، وفتح أوسع فرص المشاركة أمام حواء القطرية، والتنقيب، والاستثمار لموارد قطر باطن الأرض وفوقها، وفتح جسور التواصل الحضاري، والعلاقات الدولية بسياسة خارجية اعتمدت نهج المبادرة، والوضوح، والشفافية، وتشجيع الحوار، والحلول السلمية للأزمات. هدية من الشعب لرائد التغيير • فيلم «إلى أبناء الوطن» الذي تناول هذه الاشراقات، هو هدية من الشعب لرائد التغيير وتوثيق تقدمه الدوحة للعالم، ولدارسي التاريخ القطري والخليجي والعربي وللباحثين في العالم. أخلص إلى القول إن ما تحقق لم يأت من فراغ، إنه نتاج شخصية قائد فذ يتمتع بأهم صفات القائد الناجح الهمام ومن أهمها أنه صاحب رؤية ثاقبة، وعقلية تضع نهج التخطيط في صدارة أولوياتها، وهو يتمتع بقدرة فائقة على اختيار من يعينه ويساعده على تنفيذ الخطط والمشاريع في كل المجالات، أي أنه يؤمن بفلسفة التفويض والمشاركة كي تتكامل الجهود. ما تحقق كان يحتاج الى قائد يتمتع أيضا بشخصية قوية، وبعلو الهمة، وقد أجمع عدد من الباحثين في العالم على أن هذه من أهم صفات القائد الهمام، وهكذا هو سمو الأمير الوالد. هذه الحروف أسجلها اليوم تحية لصانع الأمجاد، وللتاريخ، وتقديراً لمن أبدعـوا بإنتـاج فيلـم (إلـى أبنـاء الوطـن).