19 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظل تغلغل تكنولوجيا الاتصال الرقمية ودخولها معظم القطاعات الحياتية، وبسبب انتشار الشبكة العنكبوتية الواسع في حياتنا البشرية بعد أن ارتفع عدد مستخدمي الانترنت على مستوى المعمورة حتى كتابة هذه السطور إلى ما يقارب حوالي 4.95 مليار شخص وذلك وفقًا لإحصائيات عام 2022، وهذا الرقم يعادل تقريبًا 62% من إجمالي سكان العالم، أن هناك أكثر من 1.83 مليار موقع إلكتروني في عام 2021. تشهد شبكة الانترنت نموًا متسارعًا على مدار العقود الثلاثة الماضية، مما أدى إلى وضع تصور لبعد اتصال جديد باعتباره تمثيلًا للفضاء السيبراني، والذي يعتبر هذا الفضاء من أهم إنجازات الإنسان الحديث، كوسيلة اتصال جديدة تنشأ من أجهزة الحاسوب المترابطة كونيًا، ويمكن اعتبار هذا الفضاء البيئة الافتراضية التي طورتها أنظمة الحوسبة والمستخدمون الذين يتفاعلون داخلها، أو إن أردنا القول بأنه مجال يتميز بالاستخدام المترابط للطيف الكهرومغناطيسي والإلكترونات، والهدف منه هو بناء المعلومات وتعديلها وتبادلها واستخدامها ومشاركتها وحفظها والتخلص منها وتعطيل الموارد المادية. إن إحدى القنوات التي يؤثر بها الفضاء السيبراني على السياسة العالمية تتمثل في التحديات الجديدة التي يفرضها على الأمن الدولي، وتحديدًا في شكل عمليتين عدائيتين: التجسس الإلكتروني والهجمات والجرائم الإلكترونية. يمكن أن يؤدي التجسس الإلكتروني وظيفة استخراج المعلومات الحساسة والمحمية، إما لغرض التجسس الصناعي أو للحصول على أسرار حكومية. فوفقًا للتقديرات الحالية، يكلّف التجسس الصناعي الإلكتروني الاقتصاد الأمريكي 300 مليار دولار سنويًا، و121 ألمانيا 71 مليار دولار، وكوريا الجنوبية 82 مليار دولار، في حين أن 86 في المائة من الشركات الكندية الكبيرة كانت ضحايا التجسس الصناعي الإلكتروني في مرحلة ما. في جانب الهجمات والجرائم الإلكترونية فقد أضحت التهديدات السيبرانية أكثر خطورة سيما خلال العقد الأخير من هذا القرن، وهي تحدث بوتيرة أكبر وبشكل متسارع، بعض الإحصاءات المتعلقة بهذه المسألة لعام 2022 تبين لنا خطورة ما يجري؛ إذ إن ما نسبته 85% من انتهاكات الأمن السيبراني ناتجة عن خطأ بشري وحوالي 94% من البرامج الضارة تحدث من خلال البريد الإلكتروني، بينما هجمات برامج الفدية تحدث كل 10 ثوان وحوالي 71% من بين جميع الهجمات الإلكترونية لها دوافع مالية (تليها سرقة الملكية الفكرية، ثم التجسس) وتقدر الإحصاءات التكلفة العالمية السنوية للجرائم الإلكترونية بما يزيد عن 10.5 تريليون دولار وذلك بحلول عام 2025. ويبدو أن مستقبل الجريمة الإلكترونية بات أكثر قتامة من أي وقت مضى، إذ تظهر الأبحاث من موقع Cybersecurity Ventures أن الضرر الذي تسببه برامج الفدية سنويًا يمكن أن يكلّف الشركات 265 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، وبمعدل هجوم كل 10 ثوانٍ للمؤسسات والمستهلكين. في الأشهر الستة الماضية فقط، زادت الهجمات الإلكترونية عالميا بنسبة 29٪ مع استمرار استغلال الجهات الفاعلة في التهديد لوباء كوفيد -19 حيث دخلت المجموعات التي تستخدم تكتيكات برامج الفدية عصرًا ذهبيًا، مع تزايد استخدام الابتزاز بوتيرة متسارعة بلغت ما يزيد عن 90٪ في أقل من عام. الشركة العالمية الرائدة في مجال الأمن السيبراني "تريند مايكرو إنكوربوريتد" ووفق تقريرها الجديد الذي أصدرته مؤخرا تشير فيه إلى سيناريوهات توضح كيف سيكون شكل العالم في العقد المقبل، وكيف سيتعامل قطاع الأمن مع الابتكارات المتطورة للجرائم السيرانية، ومما جاء في التقرير الذي يحمل اسم "Project 2030" أنه بحلول عام 2030 سيؤثر الاتصال بالانترنت على جميع مناحي حياتنا اليومية، وذلك على المستويين الجسدي والنفسي. وان الجهات الفاعلة للتهديدات السيبرانية ستطور من آلية عملها الخبيثة وتسيء استخدام الابتكارات التكنولوجية. ومن أبرز ما جاء في التوقعات الخاصة بالتقرير أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستساهم في إضفاء الطابع الديمقراطي للجرائم الالكترونية لأن البيانات ستكون متاحة للجميع وليس فقط للمتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات، وستتسبب الهجمات في إحداث فوضى بسلاسل التوريد وإلحاق الأذى الجسدي بالبشر عبر زرع أدوات سيبرانية، وسيكون من الصعب تجنب هجمات الهندسة الاجتماعية والمعلومات المضللة عندما تصبح البيانات متاحة بشكل أوسع عبر "أجهزة عرض البيانات بمستوى الرأس"، كما ستقوم بيئات إنترنت الأشياء الضخمة بجذب مجرمي الانترنت الذين سيشنون هجماتهم لاستهداف قطاع التصنيع والخدمات اللوجستية والنقل والرعاية الصحية والتعليم والبيع بالتجزئة والبيئة المنزلية، وبما أننا نرى الاتصال بشبكات 5G و6G في كل مكان، سيؤدي ذلك إلى حدوث هجمات أكثر تطورًا ودقة، كما جاء في التقرير أن القومية التكنولوجية ستصبح أداة جغرافية استراتيجية رئيسية لعدد من أقوى دول العالم، وذلك في ظل اتساع الفجوة بينها وبين الدول المتأخرة تكنولوجيًا. إن البشرية إزاء مشهد سيبراني يتطور ويتغير باستمرار وتبدو فيه أكبر قضية مدعاة للقلق هي برامج الفدية التي وصفت بأنها التهديد الأول للأمن السيبراني في عام 2021. المعطيات تشير بهذا المجال إلى أن معظم الهجمات الإلكترونية تأتي من روسيا والبرازيل والصين وهي البلدان الثلاثة الأولى التي نشأت فيها الهجمات الإلكترونية، وحول الوقت الذي تستغرقه هذه الهجمات للكشف فهو حوالي 280 يومًا، بينما تستغرق منظمة نموذجية حوالي 197 يومًا لتحديد التهديد، لكن بعض الانتهاكات يمكن أن تتجنب الكشف عنها لفترة طويلة. الجرائم الإلكترونية لن تختفي قريبًا. ومن المتوقع أن ينمو عدد أكبر من هذه الجرائم في السنوات القادمة ما دام المكان المفضل في جميع أنحاء العالم لهذه الفئة هو الشبكة العنكبوتية، وسيستمر سوق الأمن السيبراني العالم في تحقيق نمو أعلى، ومما يبدو أن تكاليف وأضرار الجرائم الإلكترونية أعلى من تلك الناجمة عن الكوارث الطبيعية. باحث دكتوراه في العلوم السياسية