14 سبتمبر 2025
تسجيللقد تكلم أفلاطون عن التربية، بحيث ينبغي أن تتجه لأعداد مواطن صالح، وهو ذلك الإنسان الذي توازنت قدراته وأدرك الأخلاق الفاضلة منذ نعومة أظفاره، أما أرسطو فقد عرف المواطن الصالح بأنه الرجل الحر، وجاءت كلمة علي رضي الله عنه مدوية عبر التاريخ "ربوا أولادكم غير ما رباكم آباؤكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم". الإنسان يرث بالفطرة ما كان يفعله والديه أمامه، فهو ينشأ على المحاكاة ويشب عليها، وقد تتأصل فيه بعض الصفات التي من الصعب أن يتخلى عنها بعد ذلك، وقد يرث أحيانا بعض الأشياء التي كانت مجرد قصصا سمعها من صديق ما في طفولته، أو ربما رأى إنسانا عابرا أو قريبا منه فعل أمرا معينا وانطبع في ذاكرته ذلك الفعل.إن ما يحدث في المجتمعات أحيانا، هو أن بعض الناس يقول لا أريد لابني أن يعيش العذاب الذي عشته، فيصبح متساهل معه في كل شيء، لا ضوابط لأوقات الصلاة مثلا، ولا ضوابط لأوقات الطعام، ولا ضوابط لأوقات المذاكرة، في حين يظن بذلك بأنه يخلص ولده من العقد النفسية، وهذه تسمى فلسفة التساهل، وأنا أقول إن هذه هي فلسفة الضياع وليست التساهل، والإشكالية ستظهر لاحقا، فعندما يصبح مراهقا سيعاني كثيرا لأنه لم يتعود على الحدود والضوابط في هذه الحياة، ولا أقصد الخوف منها وإنما الاحترام والتقدير لتلك الأنظمة.إن سيكولوجية التساهل التي يفعلها بعض الآباء هي في الحقيقة من تقصير ذلك الأب نفسه أحيانا، ومن فشل الأب أحيانا أخرى، وهي تأتي كردة فعل على والد كان يعامله بقسوة، ولربما يفعل هذه الطريقة لأنها جديدة في نظره، ولأنه يجد أن ابنه يستمتع بهذه الطريقة، ويظن أنها صائبة، ولكن استمتاع الابن لا يدل على صواب ذلك الفعل بتاتا، لأنك زدت له درجة المتعة وفي المقابل لم تزد له درجة التربية التي تسميها أنت عقوبة أو تضييقا.في المقابل نجد هناك طرقا أخرى يمارسها بعض الناس وهي طريقة الضبط الحازم بصورة مبالغ فيها، والحزم في طريقة التربية هي عكس التساهل تماما، بحيث تكون بوضع قواعد واضحة وصارمة، ولا شك أن هذه ميزتها وروعتها، لكنها شديدة وقوية، وتجعل الإنسان يعيش متألما وحزينا، كما تجعل الطفل يمارس ذلك الشيء من أجل أبيه لا لأن ذلك الشيء صواباً، فإذا غاب الرقيب عنه فإنه لا يمارسه.إن التربية الصارمة تدرب الطفل على النفاق، وهذه إشكالية أساسية، والصرامة في عملية التربية، تلغي أمرين لدى الطفل، أولها التلقائية، رغم أن جمال هذا الطفل في تلقائيته، بأن يقول ما عنده وأن يباشر بما عنده مباشرة، وفائدة أن يكون الطفل تلقائيا هو أنك تستكشف أيها المربي كيف يفكر هذا الطفل، فتعدل ذلك التفكير لديه، وتستكشف رغباته الخاطئة أو المحرمة فتعدلها إلى رغبات صائبة ومباحة، ولكن بتربيتك الصارمة تكون قد قتلت تلك التلقائية.الأمر الآخر أن هذه التربية الصارمة تقتل حرية التفكير لدى الطفل، فالذي يُربى تربية صارمة لا تكون لديه حرية التفكير، إنما يكون ذلك الطفل سجينا لأفكاره، ولذلك حينما يكبر ربما يكون ذكيا ولكنه بين أقرانه يبدو أقل منهم، لأنه دائما يستنقص ذاته، ولا يرى نفسه مؤهلا لأي شيء.هناك طريقة أخرى يمارسها بعض الآباء في التربية وهي التقلب في أسلوب التربية الصارمة والمتساهلة حسب الحالة المزاجية للأهل، وهذه شائعة في عالمنا العربي، وتعني بأنه يعتمد على قراراته صوابا كانت أو خطأ حسب حالته المزاجية، فإذا كان الأب في حالة مزاجية جيدة يجد الأمر المطروح عليه مباحا، وإذا كان في حالة مزاجية سيئة يقلب المباح حراما، والصواب خطأ.هذا النوع من التربية في نظري أخطر من التساهل وأخطر من التربية الصارمة الشديدة، لأن الطفل ليس عنده ثوابت محددة، فهو لا يفرق بين الصواب والخطأ، وحينما يكبر أيضاً لا يدري ما الصواب وما الخطأ ولا يفرق بينها، فتتداخل الأمور لديه لأن تفكيره قام على نظام مشاعري مزاجي، ولم يقم على أسلوب حواري، ولذا كانت مشاعره هي التي تحكمه، لأن الأب كان يربيه بهذه الطريقة، فيبقى الطفل دائما محتار ويخاف أن يقع في مشكلة. أن التربية المتوازنة لها شروط معينة أذكرها على سبيل الذكر لا الحصر، الشرط الأول يعتمد على طريقة والديك بالتربية، فيجب أولا أن تقوم بفحص طريقتك التربوية، وتعطي فرصة لتلقائية الطفل، الأمر الآخر أن تزوده بأُطر عامة في الضوابط الاجتماعية، وفي تعريف الصواب والخطأ، كما يجب أن يشعر بأن سقف الحرية مفتوح له، بأن يفعل ما يريده، وطبعا نحن نتكلم في حدود المباحات.كما يجب عليك أن تعلمه احترام الآخرين ومعرفة حدوده في التعامل، وهذه هي الضوابط التي يجب أن يتعلمها ابتداء، والأساس فيها، اهتمامك باحتياجات ذلك الطفل الجسمية والروحية والنفسية، وهذا غذاءه الروحي، فإن لم يستطع أن يشبع منه، فلن يستطع أن يتعلم منك الأوامر والنواهي، ولذا الاهتمام باحتياجات الطفل هي أول لبنة يريدها الطفل من والديه إذا أرادوا منه شخصية متوازنة في المستقبل.وكما قال صلى الله عليه وسلم "ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ" أخرجه الترمذي