23 سبتمبر 2025

تسجيل

أنظمة لا تسقط إلا بتدخل خارجي

19 مارس 2012

غزت الولايات المتحدة العراق واحتلته بغية إطاحة نظام صدام حسين، وتدخل "الناتو" في ليبيا مساهماً في خلع نظام معمر القذافي، فبماذا يختلف الحدثان إذا كان استهدفا في نهاية المطاف تخليص الشعب من ديكتاتورين مزمنين؟ السؤال مشروع في معرض الجدل الدائر حول التدخل وعدم التدخل في سوريا "لحماية المدنيين"، بما فيه من انتقادات ممتعضة لدول الغرب والتقائها ضمنياً مع الموقف الروسي الذي أثار استياء واسعاً بسبب "الفيتو" في مجلس الأمن (بمشاركة الصين)، وكذلك لأن موسكو تتصدى عمليا للدفاع عن النظام السوري وحمايته، فيما يكرر مسؤولوها أنهم وفقاً لتصريحات سيرغي لافروف، "لا يقفون إلى جانب أي نظام بل إلى جانب الحق"، والمؤكد هنا أنهم لا يقفون، ولو حتى بالكلام، إلى جانب الشعب السوري. ثمة اختلافات بين الحدثين، سواء في ظروفهما أو في طبيعة التدخل أو في ما سبقه وما لحقه، حتى لو بدا أن هناك تقارباً في النتائج، فالفارق جلي بين البلدين وبين تاريخيهما وتأثيرهما في محيطهما المباشر والأبعد، وكان هناك فارق أيضا بين ما كان يعنيه الرجلان، صدام ومعمر، على مستويات عدة، إذ أن صدام اتكأ إلى حزب سياسي كان له انتشار في العديد من البلدان العربية، وحتى لو لم تكن لحزب البعث شعبية واسعة فإنه استطاع استقطاب بعض النخب خلال ستينيات القرن الماضي عندما كانت تلك البلدان في مستهل حقبات استقلالها فأقبل أبناؤها المسيّسون على العمل الحزبي ظناً منهم أن حكوماتهم المستقلة ستفسح المجال للعمل السياسي، أو اعتقاداً منهم بأن الانتظام في الأحزاب يتيح لهم الضغط على الحكومات للقيام بإصلاحات تحترم الحريات ومتطلبات المشاركة والديمقراطية، أما القذافي فاعتمد على ترويج فكره الشخصي وعلى تفريخ أحزاب ظلت في حقيقتها مجرد مجموعات من الزبانية وتجار السياسة. كان عراق صدام ارتكب خطأ قومياً فادحاً عندما أمر بغزو الكويت، بمعزل عن التبريرات الواهية التي قدمها ونظراً إلى أهمية الموقع الجيو-سياسي للعراق وقدراته ومساهماته، فإن ذلك الخطأ قصم ظهر النظام العربي الرسمي وبث الشكوك والتصدعات في كل ما هو قومي وعروبي، ومع ذلك انقسم الرأي العام العربي حول الحدث، فمن كان مع العراق ومع صدام حتى بعد احتلاله بلداً عربياً ظل على هذا الولاء أو التعاطف والواقع أن الحصار الدولي الذي دام ثلاثة عشر عاماً زاد المتعاطفين حتى لو لم يكونوا مؤيدين للغزو انطلاقاً من أن الأساس هو العراق، وأن العراق ليس صدام، ثم ان غزو العراق واحتلاله في إطار ما سمي "الحرب على الإرهاب"، وما سبقها من حملات ضد العرب والمسلمين والإسلام أشاعت مناخاً عاماً معادياً للطريقة التي اختيرت لإطاحة نظام صدام، ولا أحد ينسى الأكاذيب والتلفيقات التي سبقت تبريراً للحرب بما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل أو بعلاقة هذا النظام مع تنظيم "القاعدة". لم تكن ليبيا القذافي تحظى بالتجذر نفسه عربياً، ولا بالتعاطف، ثم انه اتبع نهجاً إلغائياً للمجتمع والأفراد بحيث بات من الصعب بروز الشخصيات المبدعة في أي مجال، ورغم ادعائه زعامة مستمرة شرعيتها من الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنه استقر في الأذهان رجلاً مهووساً بذاته، وإذ شكلت "قضية لوكيربي" الفخ الذي أوقع فيه نظامه، فإنه أوقع فيه ليبيا وشعبها بفعل الحصار الدولي الذي استمر أكثر من عشرة أعوام، وحينما خرج من الحصار اتجه إلى إفريقيا وكفر بالعرب والعروبة، ثم اندفع إلى التصالح مع الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة معتقدا أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على نظامه متربعاً على مستقبل ليبيا، ما لم يحسب له أي حساب هو أن يهب الشعب للمطالبة برحيله، فانكشفت الفضيحة التي اجتهد دائما لتغطيتها، إذ لم يكن هناك أحد مستعد لنصرته ضد شعبه، صحيح أن تدخل "الناتو" أثار انقساما دوليا، لكن ندر وجود من يطالب ببقاء القذافي ونظامه فحتى المستفيدون منه كانوا مدركين أنه يحكم بالترهيب ولا يملك أي شيء من مقومات الشرعية. بعد التدخلين الدوليين في العراق وليبيا، ورغم اختلاف النظرة إليهما، كان من الضروري تسجيل الحاجة الداخلية إليهما حتى لدى المعادين للغرب ولأمريكا ولـ "الناتو"، وبعد سقوط النظامين وانهيار البنى التي قاما عليها دخل كل من البلدين في المرحلة الانتقالية، وهذه تتسم في أي بلد وأي مجتمع بالحساسية والتوقعات العالية. رأينا في دول الاتحاد السوفييتي السابق نماذج مختلفة من الانتقال، وبعضها لم ينجز استحقاقاته بعد، رغم مرور عقدين ونيف على انتهاء النظام السابق، أما البلدان التي نجحت في الانتقال السريع فهي تلك التي كانت مجتمعاتها واعية مشاكلها ومصالحها فلم تجد صعوبات في تحديد خياراتها. في البلدان العربية التي تخلصت من أنظمتها الاستبدادية ظهر معظم المجتمعات وكأنه عاد إلى الوراء ليبدأ صفحته الجديدة من اللحظة التي طرأ عليه فيها النظام البائد فانتظره حتى يسقط ليستأنف حياته من حيث توقفت قبل بضعة عقود، لذلك كان من الطبيعي أن تظهر كل الأمراض السابقة وتلك التي أضافها الحكم الاستبدادي بتأليبه الفئات أو الطوائف على بعضها بعضا. وإذا الوجود الأمريكي على الأرض العراقية جعل فئات تستقوي على أخرى وتبني نظاما جديدا يكرس هيمنتها، فإن المساعدة الأطلسية مكنت أيضا فئات في ليبيا من البروز على حساب أخرى. وفي الحالين كان هناك منتصرون ومهزومون، والمنتصرون يسعون عادة إلى فرض قواعد اللعبة التالية رغم أن هذه المعادلة تحول دون تحقيق الشعارات الكبيرة مثل: دولة للجميع، وإعادة اللحمة إلى النسيج الوطني. يبقى أن هذين التدخلين يبدوان وكأنهما أرسيا قاعدة استحالة التغيير من دون دعم خارجي، لكن انقسام المجتمع الدولي بشأن سوريا أظهر "ممانعة" لهذه القاعدة، أقله حتى الآن، في المقابل لا يمكن التعويل على النظام الاستبدادي كي يتقدم بإصلاحات حقيقية لابد أن تؤدي عملياً إلى سقوطه.