18 سبتمبر 2025
تسجيلتؤكد الانتفاضات الجارية في الوطن العربي أن لا قواعد ثابتة في السياسة، ولا معيار محددا في طريقة تعاطي الدول لا فيما بينها ولا تجاه التحركات الشعبية والقضايا ذات الطابع الإنساني أو العادلة، وهذا ما يطلق عليه فن السياسة الذي يمت بصلة إلى كل فنون المصالح والمخاتلة والغدر والصفقات والتوافقات والحروب. ليس من بلد واحد كان له موقف ينطلق من معيار واحد تجاه كل الأحداث التي جرت ولا تزال تجري على امتداد الجغرافيا العربية، وينطبق ذلك على أحداث اليوم وعلى الأمس القريب. الموقف الأشهر كان الغزو الأمريكي للعراق الذي لم يوفر خدعة إلا وحاول تسويقها بدءا من "أنبوب كولن باول" في مجلس الأمن إلى حجج تنظيم القاعدة وأسلحة الدمار الشامل. تم الغزو من دون أي شرعية دولية وليس من يسأل، فالتاريخ لم يعرف إلا صوت القوة ولم يكن توفر "الحق" كمبدأ كافيا لأي جهة لكي تكسب معركتها، بل بالعكس، فقط المختالون وأصحاب القوة والمال هم الذي صنعوا التاريخ. لم يكن يخبئ الأتراك سرا عندما أعلنوا منذ وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 أن سياستهم الجديدة تقوم على مبدأ تعدد الأبعاد، ومن الواضح أن الكثير من المحللين السياسيين العرب، الذين استهجنوا مواقف المسؤولين الأتراك مما يجري في العالم العربي لجهة تباينها بين دولة وأخرى، لم يقرأوا تركيا ولم يفهموها. فئة من النخبة العربية نظرت إلى "تركيا الجديدة" على أنها المخلص لهم في زمن الهزائم العربية، ورأى فيها البعض أنها "العثماني الجديد" الذي سوف يعيد أمجاد الإمبراطورية ويحرر لهم فلسطين. في زمن الانكسارات والعجز تتحول حتى النملة إلى أمل الخائبين. وفئة أخرى من النخب العربية لم تجد في "تركيا الجديدة" سوى محاولة لإحياء نزعة استعمارية بشعارات جديدة تتوسل القضية الفلسطينية مدخلا للوصول إلى قلوب العرب والمسلمين في حين تواصل سياسات غربية من جراء عضويتها في حلف شمال الأطلسي واستمرار علاقاتها الجيدة مع إسرائيل. ومؤخرا خرجت أقلام عربية تتهم تركيا بالانتهازية واتخاذ مواقف مزدوجة المعايير بتأييدها لتنحي حسني مبارك فيما لم تفعل ذلك مع معمر القذافي أو بأنها دعمت الثورة في تونس فيما ارتبكت في المسألة البحرينية. انقسم المثقفون العرب بين داعم للسياسات التركية الجديدة وبين محذّر منها. وهذه مشكلة العرب ولاسيَّما نخبهم الثقافية التي تحاسب الآخرين كما لو أنهم جمعية خيرية. تركيا في سياساتها الجديدة تواصل ما رسمته منذ لحظة انتهاج سياسات متعددة الأبعاد. ولعل من مفيد الصدف أن هذه الانتقادات لازدواجية السياسة التركية تجاه الانتفاضات العربية تأتي في وقت يقوم فيه رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان بزيارة إلى روسيا. تركيا الإسلامية وتركيا الأطلسية وتركيا الذاهبة إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت في السنوات الأخيرة من أهم شركاء روسيا تجاريا واستثماريا حيث روسيا هي الشريك التجاري الأول لتركيا في العالم بأرقام خيالية وصلت في العام 2008 إلى أربعين مليار دولار أمريكي، وبين البلدين مشاريع تعاون كبيرة على صعيد النفط والغاز والطاقة النووية، كما أن تأشيرات الدخول ستلغي بين البلدين في تطور نوعي هائل في العلاقة بين البلدين. إنها روسيا المسيحية الأرثوذكسية السلافية، روسيا وريثة القياصرة الأعداء التاريخيين للعثمانيين، روسيا وريثة الشيوعيين الذي كانوا رأس الحربة في المواجهة مع تركيا الجمهورية ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإنها تركيا التي تقرأ سياساتها بعين المصالح الوطنية أولا وأخيرا فكان التعاون الواسع مع روسيا، وهو المعيار نفسه الذي اتبعته في علاقاتها مع كل العرب وفي موقفها من حركة الشارع العربي من تونس إلى البحرين ومن القاهرة إلى طرابلس الغرب. تركيا الواقعية هذه حققت بفضل هذه السياسات نجاحات هائلة في مضاعفة نفوذها في المنطقة وفي محيطاتها.ولو أنها فهمت السياسة على أنها مواقف إنسانية أو أخلاقية فقط لما كنا أمام تركيا تجد لها مكانا بارزا تحت شمس المنطقة والعالم. أضعف الإيمان أن نفهم نحن العرب تركيا وأقصى الإيمان أن نحاكيها لما فيه المصالح الوطنية العربية أولا وأخيرا، عندها ربما أمكن لنا أن نحرر فلسطين ونتخلص من الاستبداد ونهزم العدو الذي في الخارج والذي أيضاً في داخلنا.