01 أكتوبر 2025
تسجيللعل المأزق الحقيقي الذي يحشرنا في زاوية الوادي السحيق ونحن نريد أن نجد أنفسنا لنعثر على حل ناجع للقضية السورية اليوم هو ما نحسه ببصائرنا قبل أن نراه بأبصارنا أن كل شأن لا يبنى على الفهم سيكون طريقا للجهل والضياع والحيرة، وإذا أمعنا النظر في الفقه السياسي الذي يدعي امتلاكه من يزعمون أنهم ساسة متعمقون في الحكومة السورية وطبعا في طليعتهم فخامة الرئيس الجزار، وأن معظم من يتصدرون لهذه السياسة من الجوار الإقليمي القريب أو الدولي البعيد وكأنهم لم يتعلموا في مدرسة ابتدائية مبادئ علم السياسة وقتها إذا اعتبرنا أنها من حيث اللغة هي القيام على الشيء بما يصلحه كما في لسان العرب 6/107 أو أنها ما يدل على التدبير والإصلاح والتربية، وهي قريبة في الاصطلاح من هذا المعنى كما يشير أبو البقاء في كلياته 3/31 من أنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي وتدبير أمورهم المدنية باعتبارها فرعا من الحكمة العملية وهي بذلك تعمل على حراسة الدين وسياسة الدنيا كما في كتابي "نصيحة الملوك" ص:51 و"كشاف اصطلاحات الفنون" 1/386 ومن هنا كان فهم الخطاب الإسلامي في أول نص للسياسة وتعلقها بالحكم كما أورد أبو جعفر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" 5/68 قول عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية رضي الله عنهم إني وجدته حسن السياسة حسن التدبير، وقد أكد الخطاب الإسلامي أن الغرض من تلك السياسة هو المحافظة على مقصود الشرع، أي أنه المصلحة الحقيقية المعتبرة لا الوهمية القائمة على الهوى إذ هو الغرض من السياسة وهذا ما أكده ابن عابدين في حاشيته 4/15 وأنه مدار الشرع بعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم، ولقد ظهر في الخطاب الإسلامي أن السياسة قسمان: سياسة عادلة تظهر الحق وتدفع المظالم، وسياسة ظالمة تعمل على نشر الشر وتنصر الجور وأنه بسبب القسم الأول ينتشر الأمن والأمان وتنمو ثروة الاقتصاد، أما بسبب الثاني فإنه يضطرب حبل الأمن ويتدهور الاقتصاد، ولذلك فإن هذا الخطاب الإسلامي يؤكد أن مما يجب أن يعتقده المسلم هو نصب الإمام الذي عليه أن يقوم بحراسة الدين وسياسة أمور الأمة بالرشد وأن هذا هو فرض بالإجماع، مستعملا الحكمة في ذلك إن اقتضت الشدة مرة أو اللين مرة أخرى، مع الاعتماد على الشرع والعقل الذي هو أصله والابتعاد عن الهوى والرأي الفاسد كما أكد ابن القيم في "إعلام الموقعين: 4/372، ومع اتخاذ المرونة التي تراعي التوسع في فهم النص جسما وروحا خدمة لمصالح العباد كما أكد القرافي المالكي، وهنا بهذه المثابة يكون للإمام حق الطاعة والنصرة على الشعب ما دام ملتزما بالفرائض مؤديا حقوق الأمة، محافظا على خزينة الدولة، محاسبا ومعاقبا كل مسيء بما يستحقه، مستخدما الجيش أولا وأخيرا للجهاد ضد الأعداء والدفاع عن البلاد وليس مخربا لها قاتلا أهلها كما كان حال حافظ الأسد وبشار اليوم ومن أشبههما من الطغاة الفراعنة القدماء والجدد كمبارك والقذافي وصالح وزين العابدين وغيرهم. وإذ جاء تعريف السياسة في المفهوم المعاصر أنها اسم للأحكام والتصرفات التي تدير شؤون الأمة في حكومتها وتشريعها وقضائها وجميع سلطاتها التنفيذية والإدارية وعلاقاتها الخارجية مع الأمم والدول فإن الخطاب الإسلامي يهضم ذلك ويدعو إليه دعما للتعاون الإنساني القائم على التضامن والأمن والسلم الدوليين [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...] (الحجرات:13) أي لتتعاونوا وهنا يقول أبو الحسن الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين ص:221 إن اختلاف الدين يدعو إلى التعاون أي في الدنيا أما في الآخرة فكما يقول تعالى [لكم دينكم ولي دين] (سورة الكافرون: 6) فانظر إلى هذا الفهم والشفافية منذ قرون عديدة خلت! وتعليقا على هذا فإننا نرى أن الفقه السياسي في الخطاب الإسلامي كان له دور بارز في التاريخ قديما وحديثا ونذكر على سبيل المثال أن محمد بن الحسن الشيباني 189هـ هو صاحب السير الصغير والكبير كان رائدا قبل غيره في هذا المجال حتى إنه تأسست في "غوتنجن" بألمانيا جمعية باسم الشيباني للحقوق الدولية ضمت علماء القانون الدولي وعرفت بالشيباني وجهوده، كما أن مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق في إحدى أعدادها عام 1943م ذكرت بيانا شمل أكثر من خمسين كتابا ألفه العلماء في السياسة، وتضم مكتبة الآستانة للمخطوطات فيها مائة مخطوط في علم السياسة كما جاء في تحقيق كتاب "سلوك الممالك" 1/60 ونقله صاحب كتاب "الأخلاق السياسية" زكريا النداف ص:98 وكذلك فإنه غير خاف على القارئ المتابع العديد من الكتب المهمة في السياسة كالأحكام السلطانية للماوردي 450هـ والإمامة لأبي عبدالله محمد القلعي و782 هـ والسياسة الشرعية لابن تيمية في القرن نفسه على أن بعض الباحثين أحصى مئات الكتب والبحوث المعاصرة في هذا المجال ذكر النداف في كتابه السابق ص103 منها ثمانية عشر سفرا مهما، ولعل ما سقناه حول تعليق الخطاب الإسلامي على فهم السياسة هو الذي يضعنا على السكة السليمة لقطار الحياة والتعامل مع البشر أيا كانوا فيه، وهذا ما يفسر لنا أيضا انتشار العدل والنصر والخير في المعظم الغالب من تاريخنا وتراثنا العريق وأصوله إلى أقاصي الدنيا. وأما ما نراه من الكراهية المرة لكثير من البشر للسياسات الحديثة والمعاصرة فإنما سبب ذلك أنها تتكلم وتكتب بلغة غير التي تنفذها على واقع الحياة، وأنها مازالت تأخذ بالسياسة المكيافيلية التي لا تنظر إلا إلى القوة بوجهيها المادي والمعنوي وبوجه نفعي محدود، كما يؤكد مكيافيللي ضرورة استخدام الدين والأخلاق لدعم هذه القوة التي يجب أن يتمتع بها الحاكم ناصحا له أن الأخلاق لا ترتبط بالسياسة وهنا أتذكر أنه في بدء الثورة السورية سلميا قد جاء مندوب من وزارة الخارجية السورية وقابل أحد العلماء الذين يقفون معها ضد حكم الأسد الظالم في بلد آخر، وصارحه بأننا في الحكومة السورية وبأمر بشار بل وأبيه من قبله قد عملنا على تحييد المؤسسة الدينية إلى طرفنا، وأوقفنا العلماء عند حدودهم بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى، فماذا تفعل أنت والشيخ القرضاوي ومن معكما أمام جهودنا الجبارة في دعم حكم الأسد، وحذره وتوعد. وهنا أيضا عرفت سفاهة المقولة التي ذكرها الجزار في أحد مقالاته أننا لا نعاني من اصطدام بين حكومة وشعب وإنما من أزمة أخلاقية، وهكذا أصبح هذا السياسي معلما في الأخلاق كما يبدو له! ويجب ألا ننسى أن حكام المجتمع الدولي بغالبيتهم ينهجون المسلك نفسه وإن كان الجزار كأداة بلغ الزبا وتفوق عليهم وهل مواقف أمريكا وأوروبا وروسيا وإيران والصين ومن تبعها إلا دائرة في هذه المصالح المتعددة متبعة مكيافيللي في كتابه الأمير ص 35 و183 وأن الأفضل للحاكم أن يخافه الناس على أن يحبوه، أي مهما قمع وقتل ظلما، وليس هناك طريقة أفضل للحاكم من النفاق علما أن هذه الأفعال وللخيبة إنما تجري باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وصون الوطن من الأعداء، ختاما أقول: إن هذا هو الذي رمى إليه الشيخ محمد عبده عندما كره السياسة بهذه المثابة فقال في كتابه "الإسلام والنصرانية والعلم والمدنية" ص 101 إن السياسة تضطهد الفكر والدين أعوذ بالله منها ومن ساس ويسوس وسائس وهي سبب جمود المسلمين لأنها أطفأت نور الإسلام وهي الشجرة الملعونة في القرآن لأنها تمشي في عبادة الهوى وخطوات الشياطين. نعم هي هكذا إن كانت كذلك، أما في الخطاب الإسلامي الحي فإنها عبادة، ولذلك كان حسن البنا يقول: إذا قيل لكم سياسة فقولوا هذا إسلام ولا نعرف هذه الأقسام، ولذا فإن معضلتنا مع اللانظام السوري الذي يدعمه معظم المجتمع الدولي المصلحي بالفهم الأخير ويضع الحجج والذرائع من جبهة النصرة والجهاديين الأجانب.. تحتاج إلى تشكيل العقل والفهم من جديد فإن هؤلاء جميعا يعملون على ألا يكون للخطاب الإسلامي الإنساني وجود في سورية خصوصا في عالم لا تسود فيه إلا شريعة الغاب على وجه العموم.