12 سبتمبر 2025

تسجيل

في الذكرى الـ35 لوفاة الرئيس هواري بومدين (1)

19 يناير 2014

تعيش الجزائر هذه الأيام حراكا سياسيا فريدا من نوعه يتمثل في البحث عن رئيس قوي ينقذها من وباء الفساد وهدر المال العام والبيروقراطية والمشاكل التي تعيشها في معظم مجالات الحياة.الكلام يدور حول عهدة رابعة للرئيس الحالي الذي يعاني من مشاكل صحية قد لا تؤهله لأداء مسؤولياته كما ينبغي، أو رئيس جديد برؤى جديدة وموازن قوى جديدة قد تمكنه من التخلص من عهد مهتري والشروع في مرحلة جديدة تقوم على الرشادة الاقتصادية والتنمية المستدامة والشفافية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. في هذه الظروف يأتي السابع والعشرون من شهر ديسمبر هذا العام ليذكر الشعب الجزائري بالرجل الذي وهب حياته لبناء دولة خرجت من حرب ضروس ضد استعمار غاشم نشر الجهل والحرمان والاستبداد والطغيان، رجل كان شغله الشاغل هو استدراك ما فات البلاد من علم وتكنولوجيا وديمقراطية وتشييد وبناء مادي ومعنوي وبشري للحاق بركب الحضارة والتقدم والرفاهية والتطور. فالذاكرة الجماعية الجزائرية ما زالت تتذكر أعمال الرجل والشعب الجزائري اليوم ما زال يحلم ببروز شخصية سياسية من حجم بومدين، حيث إنه بأشد الحاجة إلى شخصية سياسية كارزمتية قوية تخرج البلاد من الاختناق السياسي الذي تعيشه ومن ظاهرة البحث عن رئيس يقدر على إدارة البلاد والعباد ومحاربة الفساد. الرئيس هواري بومدين الذي حكم الجزائر من يونيو 1965م إلى ديسمبر 1978م يعتبر من أولائك الذين قدموا الكثير للجزائر وللشعب الجزائري ومن أولائك الزعماء الذين تركوا بصماتهم في التاريخ سواء على مستوى دولهم أو قاراتهم أو على مستوى العالم العربي ودول العالم الثالث أو حركة عدم الانحياز أو الحركة الأفروآسيوية. بومدين من الرؤساء أو الشخصيات السياسية التي همشها التاريخ محليا ودوليا ويمكننا القول إن الرئيس بومدين احترمه العالم قبل أن تعطيه حقه وسائل إعلام بلاده والمسؤولون الجزائريون أنفسهم. ففي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي جاء بعد وفاته مباشرة وحتى يومنا هذا أصبح الرئيس بومدين من المحرمات والممنوعات في وسائل الإعلام الجزائرية وفي الملتقيات والندوات والمناسبات وكأنه لم يكن وهذه الظاهرة ليست غريبة على الجزائر، حيث إن زعماء مثل "فرحات عباس" و"مصالي الحاج" و"عبان رمضان" لقوا نفس الجزاء قبل بومدين. لم يكن الرئيس بومدين معصوما من الخطأ ولم ينجح في كل مشاريعه وبرامجه، لكنه كان رجلا نظيفا لا تهمه شهوات الدنيا ومالها، ولم يأت بأخيه وأبناء بلدته ليوزع عليهم الوزارات والمناصب العليا في رئاسة الجمهورية. كانت له إيجابياته وسلبياته ونقاط ضعفه وقوته، فبومدين عايش وحكم الجزائر في "موضة" الاشتراكية والحركات التحررية وحركة عدم الانحياز والحركة الأفروآسيوية. كان، رحمه الله، يتنفس الحرية والكرامة والوقوف مع الشعوب المضطهدة. في الجزائر كان يعمل على توفير الحياة الكريمة للفقير من تعليم ورعاية صحية وسكن ومرافق الحياة الضرورية. بومدين الرئيس الذي مات ولم يترك الملايين أو المليارات من الدولارات في حساباته، بل لم يترك شيئا، مات من أجل الفلاح الجزائري، مات من أجل أولائك الذين حرمهم الاستعمار الفرنسي من العيش الشريف، من التمدرس ومن الحياة الشريفة الكريمة. بومدين ذلك الرئيس الذي لم ينس كل من وقف إلى جانب الجزائر في محنتها ضد الاستعمار الفرنسي، فوقف بجانب الدول العربية ووقف بجانب الحركات التحررية في إفريقيا وآسيا، بومدين الذي ناضل من أجل الحق في القارات الثلاث لتحرير الشعوب سياسيا وثقافيا واقتصاديا وأيديولوجيا. بسبب الفقر والجهل والحرمان انتهج الرئيس الراحل سياسة شنها على ثلاث جبهات: الزراعة، الصناعة والثقافة وسمى هذه الجبهات بالثورات الثلاث، فعلى المستوى الزراعي أُممت الأراضي الزراعية ووُزعت من جديد على الفلاحين في إطار سياسة التسيير الذاتي وهذا لمحاربة الإقطاعية ونظام "الخماسة" الذي كان سائدا في المجتمع الجزائري، وعلى المستوى الاقتصادي آمن الرئيس بومدين بمبدأ "الصناعات المصنّعة" والتركيز على الصناعات الثقيلة التي تغدي وتنمي الصناعات الخفيفة والصناعات التحويلية وباقي الصناعات الأخرى.أما فيما يتعلق بالجانب الثقافي فقد آمن الرئيس بومدين بمبدأ ديمقراطية التعليم وهذا بتوفيره مجانا لجميع أبناء المجتمع من السنة الأولى إلى أعلى درجة علمية ممكنة والتركيز على أن ابن الفلاح بإمكانه التمدرس والتفوق والاستمتاع بمقعد في الجامعة وبمنحة إلى أعتق وأشهر الجامعات في العالم إذا كان من المتفوقين. كما كان يؤمن بثقافة جماهيرية شعبية ملتزمة تخدم الفقير والمسكين والمحروم والمظلوم. كان بومدين يؤمن بأن اقتصاد البلد لا يُكتب له النجاح إذا لم يكن هناك تكامل بين قطاعاته المختلفة وكان يؤمن أن الزراعة يجب أن تغدي الصناعة والعكس صحيح وأن الصناعة الثقيلة تغدي الخفيفة وكل هذه الآلية يجب أن تتم وفق خصائص كل منطقة من مناطق الجزائر التي تزخر أراضيها بخيرات ومواد أولية معتبرة. وكان بومدين يؤمن كذلك بأن الدولة التي لا تستطيع تأمين غذائها لا تعتبر مستقلة. ففي عهد بومدين شهدت الجزائر شبكة من المصانع والمعامل انتشرت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب احتراما لمبدأ التوازن الجهوي والتكامل الاقتصادي.كما كان يعني التكامل الاقتصادي لبومدين الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال السياسي بدون استقلال اقتصادي لا يعني شيئا. وأهم إنجاز تاريخي قام به بومدين هو تأميم المحروقات وتحدي الفرنسيين الذين كانوا يسيطرون على استغلال آبار البترول والغاز في الصحراء الجزائرية الكبرى، فالفرنسيون لم يصدقوا أعينهم عندما استغنى عنهم بومدين وبمساعدة بعض الدول الصديقة واصلت الجزائر استغلالها لمحروقاتها بكامل سيادتها. وكان هذا الإنجاز درسا للدول العظمى وللشركات المتعددة الجنسية التي كانت تنهب خيرات دول العالم الثالث بأبخس الأثمان، الأمر الذي دفع الرئيس بومدين، وعلى منبر الأمم المتحدة بنيويورك، أن يطالب بنظام اقتصادي عالمي جديد وأن يكشف للعالم وبالأرقام أن النظام النقدي العالمي والتبادل العالمي والعلاقات الاقتصادية الدولية تعاني كلها من عدم التوازن والتكافؤ ومن استغلال الدول الكبرى للدول النامية والحديثة العهد بالاستقلال.