13 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ مطلع القرن الفائت تعرف الخريطة السياسية المصرية ثلاثية لا تتغير، أطرافها هم (1) من يحتكر القوة داخليا، (2) من يعبر عن الشارع و(3) من يمثل قوى الخارج. وقد تبلورت هذه الثلاثية في النصف الأول من القرن في الملك والوفد والإنجليز، وابتداء من منتصف القرن العشرين تغيرت المعادلة ليصبح أطرافها هم الجيش والإخوان وأمريكا. ولهذا فإن دراسة الثلاثية الأولى يمكن أن تفسر لنا مآلات الثلاثية الثانية. في الثلاثية الأولى كان الملك، والذي تمثله في النسخة التالية الجيش، يضع نفسه دائما في موضع أعلى من الدستور، ويريد أن تكون له الكلمة الأخيرة، وبناء على هذا كان يتدخل على نحو متكرر في الحياة السياسية، على الرغم من أن وضعه وفقا للنظام البرلماني الذي أخذت به البلاد لم يكن يؤهله لأكثر من القيام بدور شرفي (فهو يملك ولا يحكم)، ولم يكن من المفترض أن تكون لآرائه التي تتصل بشؤون الدولة من فاعلية إلا إذا صادق عليها رئيس الوزراء والوزراء المختصون. ورغم أنه لم تكن تنقصه الوطنية، إلا أن الملك كان يخاف على امتيازاته الخاصة بنفس درجة خوفه على الوطن، وأحيانا كان يرادف بين الأمرين، ولذا فقد كان دأبه المستمر هو التعدي على الدستور عبر القيام بما سماه المؤرخون "انقلاب القصر"، حيث كان يعطل البرلمان، ثم يصدر قرارا بحله فور انتهاء مدة التعطيل، ويحكم بمراسيم طوال فترة توقف الحياة النيابية، أو يلجأ إلى خصوم حزب الأغلبية (الوفد) لتشكيل حكومة أقلية تضم كافة الأطراف المعروفة بارتباطها بالقصر. أما الطرف الثاني من أطراف هذه الثلاثية فقد تمثل في حزب الأغلبية "الوفد" والذي شكلت مقاومته لسلطة القصر ولتدخل الإنجليز عنصرا أساسيا في المعادلة السياسية، ومثله مثل الإخوان، لم يكن الوفد في أوائل عهده حزبا سياسيا بالمعنى المعروف، وإنما كان تعبيرا عن الاتجاه الغالب في الشارع المصري. وعلى عكس المشهور عنه، لم يكن "الوفد" في أول نشأته تنظيما علمانيا صرفا، فقد كان الكثير من المصريين ينظرون إلى "سعد زغلول" على أنه زعيم وطني ومسلم متدين في الوقت ذاته، خاصة وأنه كان تلميذا للشيخ محمد عبده "الذي دارت وصاياه حول ضرورة الحد من استبداد السلطة الزمنية وتحرير مصر من الوصاية الأجنبية". وكما أن الإخوان لم يمتلكوا في أي مرحلة من مراحل نشاطهم السياسي سوى رصيدهم الشعبي فقد كان الوفد في معركته المزدوجة أمام القصر والإنجليز لا يمتلك كذلك سوى حماسة أنصاره وشعبيته في الشارع. ومرة أخرى فإنه — مثل الإخوان — لم يعتل منصة الحكم إلا لفترات وجيزة. فقد كانت حماسة أعضائه لتطبيق الدستور وتمثيل الأمة سببا في إيقاعهم في صدام متكرر مع السلطة الفعلية (الدولة العميقة) التي كان الملك والإنجليز يمسكون بمعظم خيوطها. وكانت قضية الميزانية (!) أول القضايا التي تثير الخلاف بين الحكومات الوفدية وبين القصر والإنجليز، حيث أصر النواب على إلغاء مساهمة مصر في نفقات جيش الاحتلال، وتعديل مرتبات المستشارين الإنجليز الملحقين بوزارتي العدل والمالية، كما حاول البرلمان الوفدي أن يفرض إشرافه المالي والإداري على القصر، وتحديدا على تعيين كبار موظفي البلاط، الأمر الذي أوقعه في مشاكل متعددة كانت تنتهي به دائما إلى الحل. أما الطرف الثالث في المشهد السياسي المصري القديم فتمثل في بريطانيا، وهذه — مثلها مثل الولايات المتحدة حالياً — كانت على استعداد للترحيب بأي نظام يجنبها عدم الاستقرار السياسي، فحيثما كانت مصالحها مستقرة كان بالإمكان قيام تعاون بينها وبين من في الحكم. ومثل خلفائهم من الأمريكان "كان الإنجليز دوما متحفظين تجاه أصدقائهم بنفس قدر تحفظهم تجاه أعدائهم". "فبريطانيا لم تكن تريد أصدقاء حميمين، يشكل إخلاصها لهم عبئا عليها، ولم تكن تريد أن تصنع أعداء صرحاء، قد تحتاج إلى الاستفادة منهم ذات يوم". وكانت مشكلة الإنجليز قديما هي نفس مشكلة الأمريكان حالياً، فهم لا يثقون في حزب الأغلبية، وفي نفس الوقت لا يستطيعون أن يغامروا بمحالفة حكومات أقلية لا تحظى بشعبية فعلية في الشارع، وهذا ما يفسر التقلبات والتناقضات في مواقفهم، حتى إنهم كانوا يتحاشون اتخاذ جانب طرف ما في الصراع بين القصر والوفد على نحو صريح. "ومع ذلك فقد كانوا يراقبون باهتمام شديد التحولات في هذا الصراع، وكانوا مستعدين للتدخل بمجرد أن يلوح لهم أن السياسة التي يتبناها أحد الطرفين تهدد مصالحهم". أما الطرف المسكوت عنه في إطار هذه الثلاثية والذي كان مرشحا لضبط الإيقاع السياسي بين مكوناتها، ولكنه لم يفلح، فهو أحزاب المعارضة الأخرى (جبهة الإنقاذ !)، والتي لم تنجح طوال تاريخها أن تجتذب سوى أعداد قليلين من المصريين، ولذا فقد قدر لها دوما أن تكون لعبة في يد الملك أو المعتمد البريطاني (أو الجيش)، وبالتالي فقدت كل استقلال حقيقي. وقد كان الأيسر لها أن تتجه الوجهة المضادة بأن تتقرب إلى حزب الأغلبية. ولكنها كانت تلتمس رضا القصر والإنجليز، على اعتبار أنهما كانا يملكان القوة الحقيقية من وجهة نظرها. ما حدث للأطراف الثلاثة في نهاية القصتين القديمة والجديدة متشابه أيضا إلى حد ما. فالوفد فشل في أن يستمر حزبا للأغلبية بعد أن مارس سياسة ملكية وقبل تشكيل الوزارة بتكليف من الإنجليز (في أعقاب أحداث فبراير 1942 الشهيرة)، تماما كما فشل الإخوان عندما قبلوا مهادنة الدولة العميقة ومارسوا السياسة بنفس طريقة مبارك، أما الاحتلال الإنجليزي فقد انحسر بعد أن تضخمت فاتورته، وحلت محله الهيمنة الأمريكية التي تقوم على أساس من التأثير عن بعد ورفض التدخل المباشر. أما الملك فقد خسر كل مزاياه دفعة واحدة ولم يجد من يدافع عنه، بعد أن قامت في وجهة ثورة أقنعت المصريين أنها الأكثر تعبيرا عنهم وعن مصالحهم. والسؤال الآن هل سيظل المصريون (من مؤيدي الانقلاب) مقتنعين أن ما جرى في الثالث من يوليو 2013 هو استنساخ لما جرى في الثالث والعشرين من يوليو 1952، وأن الانقلاب وقائده يبتغون مصلحتهم ورفاهتهم، أم أنهم سينفضون من حوله كما انفض أنصار الملك من حوله، علما بأن مظاهر الاحتفاء بالملك فترة وجوده في الحكم كانت لا تختلف كثيرا عن مظاهر الاحتفاء الحالية التي يبديها أنصار الانقلاب بقائدهم الفذ وزعيمهم الملهم. لمزيد من التفصيلات التاريخية، يراجع كتاب مارسيل كولومب، تطور مصر، (1924 - 1950)