20 سبتمبر 2025

تسجيل

بائع الميداليات

18 نوفمبر 2023

بقيت محفورة في ذهني لا تريد أن تغادرني، تلك اللحظة التي جمعتني ببائع الميداليات، يبيع ميداليات كل مفاتيح السعادة، منازل، فلل، سيارات ينادي على المارة اشتروا ميداليات، موجود الماركات كلها يا سادة. بالمناسبة أنا أكتب هذه اللحظات بعد مرور أكثر من سنتين عليها، ولكني أكتب الحروف وكأني أراها أمامي ماثلة لا أستطيع أن أنساها إلا بالبوح، فالبوح أحيانا راحة وإن كان منصوبا على جسر من العذاب. كنت واقفاً بسيارتي منتظرا زوجتي التي كانت تشتري بعض الأغراض، كنت أصف سيارتي بجوار مقهى أهل الخير، هذا اسم المقهى، وليست صفة من يجلس فيه. مضت الدقائق تلو الدقائق، وإذا بصبي صغير يشب ليطل من نافذة سيارتي، وكان وهو يشب يحمل أثقالاً كبيرة لا يستطيع حملها الكبار، قيود لم يرها الناس ولكني كنت أراها فآثارها واضحة في معصمه الصغير وملابسه الرثة كان قادما من مقهى أهل الخير وكأن أحدا لم يشتر منه، تبصر في من بعيد، وقال من الممكن أن يكون الفرج هنا عند هذا الواقف ينتظر، سبقه لي أيضا من يمسكون بعدد تنظيف السيارة، ويقفون على نواصي الشوارع، ويتطفلون على أصحاب السيارات وللأسف لا يمسح الغبار، ولا ينظف شيئا كنت أنهاهم بلطف، وهو يلاحظ هذا من بعيد، ولكنه جمع شجاعته، واقترب مني وسمحت له بالقدوم بأن أشرت إليه تعالى إلي، ووقف ليطل على الفرج الذي طال عليه خلال يوم صيف مرهق، قلت له ماذا عندك؟، فأخذ يشرح لي بضاعته بصوت مخنوق ولكني لم أع ما يقول كل ما كان يشغلني هي تلك الأساور التي أراها في يديه وقدميه، فهو كمن يبيع السعادة للناس، وهو ينتظر دوره، يبيع ميداليات لكل أنواع المفاتيح، وهو ينتظر مفتاح الرحمة، ما أقسى الحياة حين تعطينا الدروس في تناقضاتها، قلت له بصوت خفيض، هل أنت في مدرسة؟ بائع الميداليات: كنت ولكني خرجت؛ لأن أمي ليس معها مال للتعليم. فبادرته وأبوك بائع الميداليات: مات منذ كنت صغيرا، فقلت في نفسي هذا على أساس من يحدثني رجل كبير. لا أعلم لماذا شعرت أن الأب هنا هو نفس تلك الميداليات ولكنه سقط من مجموعته في غفلة من الزمن، بادرني بلهفة، هل ستشتري مني؟ قلت له مغيرا السؤال، هل هذه البضاعة لك؟ بائع الميداليات: لا هي للرجل الذي أعمل عنده، أي أنه ميدالية أخرى مع مجموعته، ولكنها مجسدة حقيقة، وتمشي بقدميها في دروب الألم قلت له ليس لك أمنيات، وقد كان سؤالا غبيا مني فما هي الأمنيات لمثل هذا ألم نقتلها في مهدها؟ بائع الميداليات: بادرني بأحلام الطفولة المختبئة عنده: أن أبيع بضاعتي كلها قلت له بكم هذه البضاعة كلها؟ بائع الميداليات: بصوت فرح كلها؟ قلت له نعم كلها بائع الميداليات: انتظر حتى أحسب لك، وبقي يجمع وأنا أنظر إلى أغلاله، كنت أحاول أن أفكها عنه أو أن أكسرها فقال مقاطع مخيلتي: 200 فقط فقلت له: هذه 200 وهذه أخرى اشترى بضاعة لك تجمعت نظرات عينيه بقوة، ونظر إلي بقوة لم أتحملها منه وكأنها سهام قوية، وكان يريد أن يعانقني من فرحته في لحظة تحطمت فيها الأغلال كلها، فعاد طفلا وعدت إنسانا في لحظة أراد أن يعطني البضاعة، فرفضت ومضى سعيدا بانتصاره في إحدى جولات الحياة الصعبة، ومضيت أنا بميدالية لا أضع فيها شيئاً سوى قلب عاد إلى إنسانيته في لحظة عابرة بين مصيرين.