15 سبتمبر 2025
تسجيلليس من السهل اختزال تجربة تناهز ربع قرن من العمل في شبكة الجزيرة في سطور أو صفحات محددة. إنها تجربة مهنية وإنسانية عميقة ومشحونة بالأحداث والمنعطفات. ولأن من الصعب اختزال هذه التجربة الطويلة والحافلة بصور متعددة من الوجوه والأماكن والذكريات، فإني سأكتفي باستحضار بعض ملامح مرحلتها الأولى، بدايات الجزيرة، التي ما زال صداها وعبق مكانها وزمانها حاضرا بقوة في النفس والذاكرة. كيف لا وهي المرحلة التي وضعت اللبنة الأساس لصرح إعلامي عظيم شغل الناس وسطر تاريخا يحفل بالإنجازات والتحديات والتضحيات. مر ربع قرن تقريبا ولا تزال الذاكرة حية والعاطفة قوية. كيف كانت البداية؟ أبهرني، وأنا أتابع بث القناة في وطني المغرب، مستوى المحتوى وجرأة الطرح وتعددية الآراء والمواقف، هامش الحرية. ومثلما قال أحدهم يوما: (وجدت في الجزيرة خبراً لا إخبارًا). لم أتأخر في تقديم طلب الانضمام إلى القناة عبر سفارة دولة قطر في الرباط، ولم تمض سوى أيام قليلة وإذا بي أمضي على عقد العمل، لتبدأ حكايتي مع الجزيرة، وذكريات البدايات الفريدة. في يوم السبت 10 مايو 1997 وطأت قدماي غرفة الأخبار للمرة الأولى.. لحظتها طغت عليَّ مشاعر ممزوجة بالرهبة والفرح، وكانت مساحة غرفة الأخبار أولى المفاجآت.. مكان صغير، تؤثثه طاولات دائرية الشكل ومضلعة الجوانب، عليها أجهزة الحواسيب، وحولها أشخاص منهمكون في عملهم، وفي عمق هذا الفضاء صورة لخريطة العالم على الجدار، تشكل خلفية نشرات الأخبار. "أيعقل أن يخرج ذاك المنتج الإخباري المدهش، الذي أتابعه على الشاشة، من هذا المكان الضيق؟!" كان هذا السؤال الذي تردد بداخلي مثلما كان يتساءل كثير من زوار القناة! وإذ كنت أتحدث إلى العم عبدالله، السائق الذي رافقني من الفندق إلى مقر القناة، مر بجانبي بعض الزملاء، تبينوا من نظراتي التائهة أني زميل جديد، بادروا بالتحية والترحيب والتعارف. فكان لذلك أثر جميل منحني شعورا بالارتياح وبدد رهبة البدايات. هذا زميل من تونس وذاك من الأردن وهذا من فلسطين المحتلة وتلك الزميلة عراقية والآخر من السودان يرافقه زميل من مصر، وغيرهم تعرفت إليهم لاحقا من دول عربية شتى.. هي جامعة عربية مصغرة، حدثتني نفسي. ورغم صغر حجمها، كانت غرفة الأخبار تنبض بالنشاط والحيوية وتسكنها طاقة إيجابية. بعد يومين من هذه الزيارة بدأت تجارب الأداء، وبعدها بأسبوع كنت أقدم نشرة الأخبار على الهواء، والفضل لله تعالى وللزملاء، الذين لم يبخلوا بالدعم والمساعدة. بسرعة اندمجت في جو العمل، وبسرعة وقعت تحت سحر المكان، وبسرعة استوعبت سر نجاحٍ وبروزٍ سريع ولافت لقناة وليدة لم يتجاوز عمرها وقتئذ ستة أشهر، وساعاتُ بثها اليومي ست فقط. إنه العمل الجاد والتعاون الجماعي والاحترام والتقدير المتبادل بين الجميع، والالتزام بالقواعد المهنية. كانت غرفة الأخبار فضاء حقيقيا للمثاقفة، والتبادل المفتوح للأفكار والمعلومات وبيئة إيجابية للعمل. ما كان معظم الزملاء مجرد محررين صحفيين، بل أشخاص على مستوى عال من الوعي السياسي والمعرفي والثقافة العامة، وكانت الأحاديث الجانبية معهم فرصة ممتعة ومفيدة.. ورغم اختلاف اللهجات والعادات والتقاليد والثقافات والمرجعيات والأفكار المسبقة أحيانا، إلا أن المشترك بين مكونات غرفة الأخبار كان فوق كل اختلاف. جمعتنا القناعة برسالة القناة وأهمية خدمة هذا المشروع والرغبة في الإنجاز وتحقيق الذات. كان شعور الانتماء إلى المؤسسة يتعزز ويتجدد شيئا فشيئا، وما زاد هذا الشعور قوة، تشبثها بسياستها التحريرية ووضعها قضايا المواطن العربي والإنسان عموما في صلب اهتمامها وفتح ملفات ظل الاقتراب منها ممنوعا على الإعلام التقليدي. روح الجزيرة أصبحت الجزيرة مشروع كل فرد من العاملين فيها وملأت تلك الروح المكان. سرها في الانحياز للحقيقة والقضايا العادلة وللإنسان أينما كان.. كان هاجسنا جميعا، إدارةً وعاملين، المثابرة والإصرار على التطور وتحقيق مزيد من الانتشار والوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين. كان الإعداد والتحضير لنشرات الأخبار والبرامج بمثابة اختبار يومي يجري الاستعداد له بجدية تامة وعمل جماعي دقيق.. وشكَّل الالتزام التام بالقواعد المهنية الواضحة وضوابط العمل الصارمة والجدية في الأداء سرا آخر من أسرار النجاح.. كما كان التغلب على المشاكل الطارئة وتصحيح الأخطاء بالحوار والتفاهم في معظم الأحيان. وكانت حماستنا للإنجاز ترفض الجهد القليل أو الصنعة الأسهل. كان الحرص على تطوير القناة وحفظ صورتها والغيرة على صيتها عاملا مشتركا بيننا.. وكثيرا ما كنا، ونحن نتابع القناة في بيوتنا، نتصل بغرفة الأخبار منبهين الزملاء للتصويب إذا ظهر خطأ ما على شاشة الجزيرة. كان ذلك أشبه بـ (عرف)، ولم تكن الصدور تضيق بالملاحظات البنَّاءة. إنها "روح الجزيرة" رغم أجواء العمل الجادة التي يطبعها أحيانا التوتر والقلق، إلا أنها لم تكن تخلو من لحظات طريفة يضفيها زملاء ظرفاء وخفيفو الظل بقفشاتهم على المكان، تسهم في بناء جسور المودة بين الزملاء.. وكنا نشعر بالخسارة كلما اضطرت ظروف ما زميلة أو زميلا للمغادرة طوعا أو كرها، وكنا نجتمع وننظم حفلة تكريم للمغادر، سواء داخل القناة أو خارجها، وكلنا أمل في عودته قريبا. لقد كنا فريق عمل منسجما وناجحا. وإذا وجدت فريقا ناجحا فاعلم أن سر النجاح إدارة ناجحة ظلت إدارة الجزيرة في تلك المرحلة منفتحة على مختلف الآراء والأفكار، وظل تواصلها مع العاملين في القناة متاحا وبلا حواجز أو قيود، فالمشروع واحد والهدف مشترك. كانت الاجتماعات بين الإدارة والعاملين من مختلف الأقسام تعقد بانتظام، وكانت علاقة الطرفين علاقة شراكة فعلية سواء في بحث وإعداد خطط وأساليب العمل أو في مناقشة مشاريع تطوير الأداء وتوفير مستلزمات الارتقاء. كان ولا يزال الحرص على التشبث بالقواعد المهنية والتوازن في الطرح رسالة الإدارة إلى العاملين. وليس من المجاملة أو المبالغة القول وبإجماع الرعيل الأول أن الإدارة آنذاك وبقيادة رئيس مجلسها الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني وباحترافيتها ومهنيتها ووضوح رؤيتها وبحزمها وعزمها، نجحت إلى حد كبير في الاستفادة القصوى من الخبرات والطاقات العاملة في المؤسسة ووفرت كل متطلبات النجاح وعززت بشراكتها مع الموظفين شعور الانتماء وضخت فيهم بثقتها في قدراتهم وكفاءاتهم قوة دفع معنوية للإنجاز، ودون أن تستولي على ما يحققونه من نجاح. وهنا (روح الجزيرة) فقد كان التحفيز المادي والمعنوي والثناء والإشادة بالعمل الناجح وبصاحبه نهج الإدارة مع الجميع. كما كان تصويب الأخطاء والتعامل مع تحديات العمل اليومية بالحوار وبالتوجيه، دون تشكيك في قدرات من أخطأ أو انتقاص من قيمته، وكانت المحاسبة حاضرة أيضا عند الاقتضاء. ولا يجب أن أغفل مواقف الإدارة المشرفة في التعامل مع الحالات الإنسانية للزملاء. ولن أنسى أبدا وقفتها النبيلة بجانبي حينما تعرضت لحادث سير خطير عام 1998.. هذه بعض من أهم العوامل التي ساهمت في أن تبلغ الجزيرة من النجاح ما فاق الطموح والتوقع. وكأنه الحلم الذي أصبح حقيقة.. كان صدق محتوى ما تبثه قناتنا، والطرح الجريء والتحليل العميق من زوايا متعددة وعرض الآراء المتعارضة، بضاعتنا التي قدمنا بها أنفسنا إلى جمهورنا العربي وإلى العالم فجذب إلينا الاهتمام والاحترام. كان تفاعل وتجاوب المواطن العربي مع مُنتج ورسالة القناة هائلا تفاجأنا به نحن أولا قبل غيرنا.. ومبكراً بتنا نسمع حديثا عن مدرسة الجزيرة، مدرسة بأسلوبها وقواعد عملها ودقة وعمق محتواها، صححت مفاهيم وغيرت قناعات ورفعت من مستوى وعي المشاهد العربي بحقيقة واقعه وما يدور حوله. وبسرعة مذهلة تمكنت القناة من ترسيخ موقعها بين القنوات الإخبارية الرائدة. جاءت التغطية الجريئة للحرب على العراق، والحرب على أفغانستان لترسخ موقع القناة بين القنوات الإخبارية الدولية الرائدة. ولكوننا كنا المصدر الأساسي للأخبار في العراق والوحيد في أفغانستان، وُضعنا تحت مجهر رصد عربي ودولي دقيق. زادنا ذلك شعورا بجسامة المسؤولية، فأصبح الوقوع في الخطأ هاجسا ضيّق عيون غربال نقدنا الذاتي. كانت المعلومة قبل بروز الجزيرة حكرا على الإعلام العربي الرسمي والإعلام الغربي، ولكن ظهور الجزيرة بالمستوى المهني العالي الذي تغطي به الأحداث سواء من الميدان أو من الأستوديو وبمعلومات مستفيضة ودقيقة من زوايا مختلفة وبلغة المشاهد العربي، جعلها مصدر الأخبار الأول للمشاهد العربي، حيث تراجعت مكانة القنوات الإخبارية الغربية في المنطقة وتضاءل تأثيرها إلى حد التلاشي، بل ولجأت تلك القنوات إلينا لتنهل من الجزيرة الأخبار والصور. وبات المقر المركزي للمؤسسة مقصدا لقنوات إخبارية شهيرة ووكالات أنباء عالمية من شتى الدول، وموفدي قنوات غربية كبرى ظلت لسنوات طويلة مرجعا لأخبار المنطقة.. توافدوا على مقر القناة في الدوحة ليوقعوا الاتفاقيات للتبادل الإخباري وينقلوا عنها أخبارها وصورها ويعدوا عنها التقارير والروبورتاجات والبرامج ويجرون لقاءات خاصة مع المسؤولين عنها ومع وجوهها المعروفة من مذيعي الأخبار ومقدمي البرامج. أصبحت الجزيرة تتصدر صفحات صحف ومجلات عالمية ليس كمصدر للخبر فقط وإنما كخبر في حد ذاته. كما لجأت إحدى القنوات اليابانية إلى بث بعض نشرات أخبار الجزيرة مع ترجمة بشريط على الشاشة. كان ذلك فعلا مدعاة للفخر في غرفة الأخبار. ورغم زخم العمل اليومي، فتحت القناة أبوابها للمهتمين والباحثين والمتطلعين لفهم سر قوتها وريادتها، وعجت غرفة الأخبار بزوار من مستويات وتخصصات متعددة، من دبلوماسيين وأكاديميين وإعلاميين وطلاب معاهد الإعلام. مقياس النجاح ولم يكن مستوى الاهتمام والاحترام من جمهورنا ومخالفينا مقياس نجاحنا الوحيد، بل كان حجم الضغوط الهائل الذي تتعرض له طواقم المؤسسة في الميدان والعاملون في مكاتبها الخارجية من قبل سلطات دول عدة هالها حجم تأثير القناة على جمهورها، مقياسا لحجم تأثير رسالتها.. ولكن، للحقيقة أعداء وثمن. تحرك أعداء الكلمة الحرة سرا وعلانية لإخماد صوت الحق. دول عربية أرهبها منبر الجزيرة راحت تؤلب قوى كبرى وتحرضها للضغط على قطر والجزيرة، بل وحتى على قصفها! ومنها دول ظلت إلى حين أزمة الحصار تطالب بإغلاق القناة. دفعت القناة الثمن غالياً باستشهاد زملاء واعتقال آخرين سنوات طويلة في السجون. وخضع بث الجزيرة وبعض صحفييها لمراقبة ورصد مباشر من الولايات المتحدة وغيرها من الدول. وكانت تصل إلى القناة ملاحظات واستفسارات أو احتجاج على بث خبر ما أو صورة بعينها، وبلغ الأمر إلى حد إبداء ملاحظات أو انتقادات لنظرة أو نبرة صوت مذيع أثناء تقديم الخبر! وما زالت القناة تتعرض للحروب وحملات التشويش والتشهير والتنفير من أعداء الأمس واليوم. لكن الجزيرة برسالتها السامية وإرادة القائمين والعاملين فيها لن تنحني ولن تتراجع. وتبقى ثقة المشاهد العربي الواعي، وسمو المبادئ التي نعمل بها وندافع عنها، الذخيرة الحية التي نواصل بها المسير إلى المستقبل. مذيع أساسي بقناة الجزيرة