12 سبتمبر 2025

تسجيل

العلاقة بين الديمقراطية والمجتمع المدني في ضوء الربيع العربي

18 سبتمبر 2013

منذ فوز حزب النهضة الإسلامي في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، وتمكنه من ضمان أكثرية مريحة في المجلس الوطني التأسيسي، حين أقام ائتلافاً ثلاثياً حاكماً مع حزب "المؤتمر الوطني" ذي التوجهات العلمانية الوسطية، و"التكتل الديمقراطي" الأقرب نظرياً إلى يسار الوسط، وتشكيل رئيس الوزراء التونسي السابق الباجي قائد السبسي حزب "نداء تونس"، الذي يضم في صفوفه أعضاء سابقين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، المنحل بقرار قضائي، والذي استطاع في فترة وجيزة أن يستقطب عشرات الآلاف من المنخرطين الجدد المستاءين من حكم الترويكا، تكرس في المشهد السياسي التونسي استقطاب ثنائي حاد، و انتشار ظاهرة الإرهاب التكفيري الذي يستهدف رموز المعارضة اليسارية و القومية، و الإعلاميين، و المثقفين، تعيش تونس أزمة بناء الدولة الديمقراطية التعددية، التي تقوم على منظومة من القيم والقواعد التي تنظم الاجتماع السياسي. ولعل أهم هذه القواعد التي تشكل القاسم المشترك بين السلطة و المعارضة، ومكونات المجتمع المدني الحديث، هي الدستور المكتوب المتوافق عليه، الذي يكتب في ضوء مبادئ و أسس الدولة المدنية، أي الدولة الديمقراطية التعددية، و العمل على بلورة العقد الاجتماعي الجديد الذي يقوم على احترام الحريات العامة و الخاصة، والمواطنية، واستقلال المجال السياسي، و هو ما يجعل السياسة من إنتاج المجتمع، بما هي تعبير عن المصالح العمومية، وبما هي منافسة سلمية وحضارية على إدارة الشؤون العامة للدولة. في ظل غياب هذا التوجه الحقيقي نحو بناء الدولة الديمقراطية التعددية، دخلت تونس في ظل أزمة مصيرية ووجودية.وتعمقت الأزمة هذه منذ اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو الماضي، و استمرار تمسك حركة النهضة الإسلامية بالسلطة، ورفضها حل الحكومة الحالية التي يرأسها السيد علي العريض، وتمسك جبهة "الإنقاذ" المعارضة بمطالبها، لا سيما رحيل هذه الحكومة العاجزة والفاشلة، والتوافق على تشكيل حكومة جديدة محايدة ترأسها شخصية مستقلة تتولى تنفيذ برنامج واضح وأيضا متوافق عليه بين جميع الفرقاء ويضمن السير بالبلاد نحو انتخابات نظيفة في مناخ آمن، ويمكن اختزاله في الآتي: مقاومة العنف السياسي بحل ما يسمى بـ"رابطات حماية الثورة" المساندة للحزب الحاكم، ومحاربة الإرهاب من خلال رسم إستراتيجية وطنية موحدة تؤمن الوحدة الوطنية وتنفذ في إطار من الثقة في الحكومة الجديدة وفي إطار من اليقظة والحزم في الدفاع على مؤسسات الدولة وأمن البلاد، ومراجعة التعيينات والتسميات في الإدارة التي تمت بالآلاف على أساس الولاء الحزبي للنهضة لا على أساس الجدارة والكفاءة، وكان الهدف منها تطويع الإدارة التونسية لصالح الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة. ويمكن تصور حل هذه الأزمة المصيرية، إلا من خلال بلورة هذا العقد الجديد بين السلطة و المعارضة، و الاتفاق على المشروع المجتمعي المشترك، الذي يقوم على بناء الدولة الديمقراطية التعددية، باعتبارها المطلب الرئيس للثورة الديمقراطية التونسية.. وحين يكون الخلاف بين حركة النهضة الإسلامية الطرف المهيمن في الترويكا الحاكمة و المعارضة اليسارية و الليبرالية على هذا المشروع المجتمعي المشترك لكل طبقات و فئات المجتمع التونسي، يعجز المجتمع عن بلوغ مثل هذه المواطأة على المشروع الجامع، فتتحول فيه صناديق الاقتراع إلى مجرد وسائل للتغلب و الهيمنة على مفاصل الدولة و المجتمع،تعوض وسائل العنف السياسي! الأزمة في تونس بنيوية، و لا يمكن أن تحل إلا تحل إلا في ضوء إرساء الديمقراطية وبناء دولة القانون والانطلاق في تحقيق التنمية والشغل في مناخ آمن. و فيما التجاذبات السياسية بين السلطة و المعارضة تقزم الأزمة إلى قضية رحيل الحكومة، و تشكيل حكومة كفاءات، فإن المراقب الموضوعي للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح أن الأزمة في تونس تكمن في غياب المشروع المجتمعي المشترك، لا سيما فيما يتعلق ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وهذا هو لب المشكلة. الدولة الوطنية الديمقراطية هي بوجه عام دولة الحرّية، وهي بوجه خاص الضامن لحرّية الفكر، وتأكيدنا على حرّية الفكر في وضعنا التونسي تنبع من قناعتنا بأن المدخل إلى إعادة إنتاج السياسة في المجتمع هو مدخل معرفي فكري من أجل بلورة مشروع تنويري يجسد القطيعة مع ما قبلية التاريخ، هذه الحقبة اللا زمانية التي جعلت التنوير التونسي إما ينساح للانكفاء على الموروث الماضوي تحت تأثير صدمة المواجهة مع العملقة الغربية أو يتماهى مع شخصية الغرب من موقع عقدة الشعور بالنقص. وهذا الانكفاء وهذا التماهي بالغرب باعتباره نموذجاً يحتذى به، يمنعان عملياً بلورة مشروع تنويري تونسي قادر أن يحقق نهضة تحديثية عبر المواجهة التاريخية مع الذات (أي ثورة الذات العربية على ذاتها) والآخر (أي الغرب) في آن معاً. لذلك نرى أن حرّية الفكر لا تدخل في نطاق سلطة الدولة المجسدة لما هو عام ومشترك بين الأفراد، وليس لما هو خاص ويختلف من فرد إلى آخر. فمع أن الأطر الاجتماعية تحدد المعرفة والفكر إلا أن أفراد المجتمع يفكر كل منهم بحرّية تامة وهم في ذلك مختلفون أشد الاختلاف. العقلانية المنفتحة هي ضمان حق الاختلاف، ولا تكون الدولة عقلانية ما لم تضمن هذا الحق، كما أن حرية الفكر والرأي لا تدخل في إطار النظام الاجتماعي، ولذلك لا ينبغي أن تدخل في إطار سلطة الدولة. وتطلب الدولة انقياد أعمال الأفراد بقراراتها ولا تطلب الإجماع المستحيل في الإرادة المتنوعة دوماً والحرة بالضرورة. ومع أنه لا شيء يمكن أن يمنع الدولة من تجاهل حرّية الفكر والرأي، فإن تجاهلها هذا في غير مصلحتها، لأنه يجعلها بغيضة بلا مقابل، وليس من جدوى في القوانين المنغلقة بقضايا الفكر والرأي. تكمن عقلانية الدولة في وعيها أنها تستطيع أن تحكم بالعنف والإكراه، وأن ترسل المواطنين إلى السجن أو الموت لأتفه الأسباب، إلا أن ذلك ليس في مصلحتها، وليس من سلامة العقل أن تفعل ذلك. فحق الدولة لا يتجاوز قوتها الفعلية، وكل ما سمحت أن تتجاوز قوتها الفعلية، تكون قد فتحت باب التمرد والعصيان على سلطتها. فهي لا تستطيع مخالفة أسس وجودها، وقوانين بقائها التي هي قوانين طبيعتها الخاصة، وأهمها مراعاة حقوق مواطنيها ورعايتهم ومراعاة القوانين التي تحدد الحقوق من دون أن تعرض بقائها ذاتها للخطر. الديمقراطية بوصفها حقيقة نظام الحكم تقوم على مبدأ النظام العام، قبل أي شيء آخر، النظام في معارضة العشوائية والفوضى (أي النظام في معارضة حرية الأفراد واختلافهم وتعارض مصالحهم). هذا النظام العام أو التنظيم تفرضه في المجتمع المدني الضرورة الطبيعية أولاً، وخواص الكائن البشري ثانياً، والمصلحة أي كانت الصورة المغتربة التي تظهر بها ثالثاً، ولذلك فإن المجتمع هو الذي ينتج النظام، وليس النظام هو الذي ينتج المجتمع، إلا بالمعنى الذي تتحوّل معه النتيجة إلى سبب. إن النظام العام المعبر عنه واقعياً بالقانون هو مبدأ وحدة المجتمع وانتقاله من نظام الامتيازات والواجبات إلى نظام الحقوق، من نظام الجماعات المغلقة والمتحدات الاجتماعية، التي تعزل الفرد عن الكل الاجتماعي إلى المجتمع المتحرر من سلاسل الأعراف والتقاليد وأطر الفئات المغلقة. هذا التحرر الذي رغم طابع الفوضى والعشوائية الناجمين عن تحرر الأفراد هو عملية الاندماج في الكل الاجتماعي وفي النظام العام.