26 أكتوبر 2025
تسجيلتحيي تركيا في 29 أكتوبر 2023 ذكرى مرور 100 عام على إعلان الجمهورية التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك في 29 أكتوبر 1923، عقب حرب الاستقلال التي خاضتها تركيا، لإنقاذ البلاد من حرب استعمارية متعددة الجبهات والأطراف، كانت تخاض للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية. تركيا تدشن المئوية الثانية للجمهورية، في سياقات تتشابه إلى حد كبير مع السياقات التاريخية لإعلان الجمهورية قبل 100 عام. فلقد كان الإعلان عن الجمهورية خلاصة لصراع دولي كانت تركيا العثمانية أحد أطرافه وموضوعاته. تورّطت تركيا في 1914 في الحرب العالمية الأولى، بسبب وهن قيادتها آنذاك، فجرّها أحد ضباطها من الاتحاد والترقي أنور باشا للانخراط الارتجالي في الحرب العالمية الأولى، بإيعاز من الألمان، للمشاركة في مواجهة بريطانيا وفرنسا. تجد تركيا اليوم نفسها في سياقات مشابهة، ففضلا عن الاستهداف الواضح لمسيرة نهوضها، عبّرت عنه التدخلات الغربية بالانتخابات التركية الماضية ومحاولة التأثير في نتائجها، وأيضا الاستهداف الممنهج للصعود التركي والمحاولة الدائمة لإرباكه، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، لتمثل اختبارا واضحا لسياسات أنقرة، بحكم موقعها الجيوسياسي في هذه الحرب. فقد كشفت الأحداث أن تركيا كانت أمام مشهد أعقد من مجرد نزاع روسي أوكراني، إنما روسي غربي، شحذت فيه كل الأسلحة، وحشدت فيه كل الجبهات العسكرية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية والاقتصادية، حتى وصف بعض الخبراء هذه الحرب بالحرب العالمية الثالثة. وجدت تركيا نفسها بين محورين، بين روسيا العدو الودود، والغرب الحليف التقليدي "اللدود". أدرك أردوغان تعقيدات المشهد والفخ الذي يمكن أن يقع فيه، بالتورط، انحيازا لطرف على حساب الآخر. تبنت تركيا مقاربة مركبة، تنحاز للشرعية الدولية إجمالا، ولا تتورّط في تأولاتها الغربية تفصيلا، مبقية على خطوط التواصل مع روسيا، واعية بحاجة طرفي الحرب لخط عودة. نجح أردوغان فعلا في تثبيت تركيا في قلب الدبلوماسية الدولية. الغرب يحتاج تركيا حليفا ووسيطا، وروسيا تحتاجها، والمجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة يحتاجها. نجحت تركيا من خلال موقفها المركب ومتعدد المسارات، استيعاب الدرس القاسي من تجربة أنور باشا قبل حوالي قرن، عندما جرّته ألمانيا لمحورها في حرب مدمرة. وكان أنور باشا عمّقها بفقدان 80 ألف جندي في معركة التوغل في روسيا القيصرية. فحتى عضوية تركيا في الحلف الأطلسي (الناتو)، لم تفرض عليها الانحياز للقوى الغربية المحاربة لروسيا، واختارت بدل ذلك نهجا استقلاليا في خياراتها الخارجية، القائمة على التوازن المستجيب للمصالح الوطنية. تبدو الحرب الأوكرانية الروسية جزءا من مشهد دولي صاخب، يشتد فيه الصراع والتنافس من أجل توازنات دولية أكثر تحررا من الهيمنة الأمريكية الغربية. وتدفع روسيا معاندة بهذا الاتجاه إلى جانب الصين وقوى دولية كبرى مثل الهند والبرازيل وباكستان، وحتى بعض الدول الإقليمية كالسعودية وإيران. في هذا المشهد الصاخب تهب رياح كثيرة لصالح تركيا، وهي فيما يبدو التقطت هذه الفرصة التاريخية لتعزيز مكانتها الإستراتيجية، وفرضت نفسها لاعبا إقليميا ودوليا معتبرا، وهي لحظة تاريخية تتقاطع مع رغبة تركيا في العبور لحقبة المئوية الثانية للجمهورية، على أرضية رؤية "قرن تركيا". تبدو تركيا الجديدة اليوم أكثر ثقة في نظامها السياسي، في ظل إصلاحات سياسية راكمها العدالة والتنمية، وتحولت بمقتضاها الدولة إلى تجسيد لإرادة الأتراك إلى حد كبير. لقد كان فشل الانقلاب العسكري في يوليو 2016 بمثابة طي الصفحة الأخيرة في ثقافة الانقلابات العسكرية، وعززت التوجهات التي جاء بها العدالة والتنمية الحكم المدني، ثقافة سياسية ومؤسسات حكم. المؤكد أن تركيا اليوم تحوّلت، نوعيا وكميا، وباتت محل اهتمام ومتابعة من العالم كله، وانتقلت باقتدار من الهامش إلى المركز. ويشعر التركي اليوم بفخر واعتزاز بانتمائه لبلد نحت تجربته في التحول بثقة وحكمة، افتقدتها الكثير من دول العالم، بما في ذلك دول الجوار. تمضي تركيا قدما في تلمس وترسيخ المعالم والمرتكزات الأساسية، والملامح العامة، لنظام سياسي جديد يعزز الاستقرار السياسي ويرسّخ مؤسسات الدولة الديمقراطية. اقتصاديا، باتت تركيا اليوم تضاهي دولا كبرى في مجال التصنيع العسكري والقطاع السياحي والطبي والثقافي الفني وحتى والإنساني الإغاثي. تطمح رؤية "قرن تركيا" النهضوية للمئوية الجديدة في أن تأخذ تركيا موقعها ضمن أقوى وأكبر 10 اقتصادات في العالم. تستدبر تركيا قرنا كانت بدايته صاخبة جدا، قامت فيه الجمهورية كخلاصة قاسية، لنهاية قاسية، من رحم بقايا تاريخ مجيد حافل بالعظمة والجلال والقوة، وتستقبل قرنا جديدا، تتطلع أن تكون المبادئ الأساسية لرؤية "قرن تركيا" أبرز ملامحه، القيم والاستدامة والسلام، والإنتاج والعلم، والنجاح، والكفاءة، والتنمية، والمستقبل، والاستقرار، والرخاء، والرأفة، والاتصال، والقوة.