11 سبتمبر 2025

تسجيل

كيف نواجه التلوث الإعلامي؟

18 يوليو 2015

أحدثت ثورة الاتصالات تغييرا جذريا في الفضاء الإعلامي العربي والعالمي وأصبح المشاهد بكبسة زر يجول ويصول في أرجاء العالم من خلال الفضائيات التي أصبحت تنمو وتنتشر كالفطر. طوفان الفضائيات جاء بالصالح والطالح، لكن مع الأسف الشديد تغلبت الرداءة والجشع بمهنة شريفة كمهنة الإعلام وأصبح العديد من الفضائيات يبتعد يوما بعد يوم عن القيم والمبادئ ويجري وراء الكسب السريع وبأي ثمن. وهكذا تجاوزت نسبة كبيرة جدا من الفضائيات كل الضوابط والمبادئ التي تحكم العمل الإعلامي النزيه والمسؤول. ولتبرير الركض وراء الربح السهل والسريع والخروج عن الأخلاق والقيم يستعمل هؤلاء التجار مبدأ "هذا ما يريده الجمهور" و"الجمهور عاوز كذا". ومن الطرق التي تخدش الحياء وتهين كرامة الإنسان وإنسانيته تلفزيون الواقع، وأي واقع هذا الذي لا يحترم خصوصية الإنسان، كما انضمت إلى هذا النوع من الفضائيات، فضائيات تعالج المرضى على الهواء وتقدم وصفات طبية لأمراض عجز الطب والعلم لعقود من الزمن على معالجتها. وهنا نلاحظ الشعوذة على المباشر واستغلال الظروف الصعبة للمرضى وأهاليهم لسلبهم أموالهم من خلال تقديم وعود بالشفاء، وهي في حقيقة الأمر سرابا يبقى يجري وراءه المريض الذي ضاقت به كل السبل. وهناك فصيلة أخرى من الفضائيات تخصصت في الشعوذة والسحر وقراءة الكف والأوراق وغيرها من الطرق والسبل، وهكذا أصبح العراف والمشعوذة والطبيب الأخصائي، معالج السرطان وغيره من الأمراض المستعصية، وتلفزيون الواقع وبرامج الغزل وخدش الحياء على الهواء وبرامج المسابقات الوهمية أو برامج الرسائل القصيرة وغير ذلك، جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان وأصبح الشباب والكهول يتعاملون مع فضاء إعلامي ملوث وبعيد كل البعد عن ذلك الفضاء الذي يتميز بالرسالة الإعلامية الهادفة والمسؤولة.قبل سنوات خرج مسؤولو "عرب سات" عن صمتهم بعد ما وصلت بعض الفضائيات التي تبث على هذا القمر الصناعي إلى درجة كبيرة من انعدام المسؤولية والمهنية واحترام الجمهور بترويجها للشعوذة والسحر والدجل وخدش الحياء وببثها لرسائل إعلامية هابطة بعيدة كل البعد عن الأخلاق والقيم، بإعلانهم عن اتخاذ تدابير صارمة لإيقاف مثل هذه الفضائيات. من جهتهم أعلن مسؤولو القمر الصناعي "نايل سات" أنهم لا يستطيعون إلغاء عقد أي قناة فضائية دون وجود شكاوى صريحة ضدها من قبل الجمهور، ورصد مخالفات ارتكبتها القنوات. الأمر إذن، في منتهى الخطورة وبحاجة إلى تجنيد كل الوسائل والإمكانات من طرف جهات عديدة في المجتمع لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي أصبحت تنتشر بسرعة كبيرة وتجد إقبالا كبيرا خاصة من قبل المراهقين والشباب وفئات أخرى يسيطر عليها اليأس وضاقت بها السبل بسبب الفقر والجهل والتهميش الاجتماعي. ما العمل وما الحل؟ أمام هذا التلوث الخطير للفضاء الإعلامي الذي يساهم في تدمير العقول وتخريب البيوت والعالم كله يتفرج ويشاهد ويبكي على الأطلال. المشكل مطروح على عدة مستويات. المستوى الأول يتعلق بالمسؤولين على الأقمار الصناعية وضرورة اهتمامهم ومراقبتهم لما يبث في القنوات الفضائية المختلفة التي تبث من خلال أقمارهم. والعمل هنا هو وضع دفتر شروط واضح ومحدد المعالم حتى تكون الأمور واضحة خاصة تلك التي تتعلق بالجوانب الأخلاقية والأدبية وتلك التي تتعلق باحترام المشاهد وعدم إغرائه بطرق تكون بعيدة كل البعد عن العمل الإعلامي الشريف. المستوى الثاني يتعلق بالمجتمع المدني حيث إنه مطالب بالقيام بواجبه إزاء هذه القنوات التي تسمم الشباب والكبار من خلال ما تقوم به من دجل وشعوذة وإباحية وما إلى ذلك. المجتمع المدني من خلال القنوات الرسمية خاصة التشريعية والقانونية منها مطالب بمتابعة هذه الفضائيات حتى تمنع من البث إذا استمرت في خروجها عن المبادئ والأسس الأخلاقية والمهنية التي يقوم عليها الإعلام. المستوى الثالث يتمثل في أصحاب المهنة، الصحفيون ومسؤولو المؤسسات الإعلامية والجمعيات والاتحادات الصحفية عبر العالم من واجبها أن تكثف جهودها وتنسقها على المستوى الوطني ثم الإقليمي ثم الدولي لوضع حد لهذه المهازل التي تحدث على مستوى الإعلام الفضائي. أما المستوى الرابع فيتمثل في مسؤولي المدن الإعلامية الحرة التي يجب أن تضع ضوابط وقوانين لمحتوى رسائل ما يقدم في الفضائيات التي تعمل في هذه المدن الإعلامية. فالمشكلة لا يجب أن ينظر لها من جانب مادي وبمنطق الربح والخسارة، لأن البعض يرى ما دام أن القناة الفضائية تحقق ربحا ولها جمهور، هذا يعني أنها ناجحة وتقدم رسالة تخدم بها مشاهديها. منطق الربح في العمل الإعلامي يجب أن يقترن بالقيم وما يضيف للذاكرة الجماعية وللفرد في المجتمع، أما إذا كان هناك ربح من خلال الوعود بالشفاء الكاذبة وبخدش الحياء والدجل والشعودة، فهذا الربح يضر المجتمع أكثر مما يخدمه، صحيح قد يخدم المصالح الضيقة لصاحب القناة؛ لكنه يبث سموما في أوساط الشباب والمجتمع ككل. القناة الفضائية أيا كانت طبيعتها وخصوصيتها تبقى مؤسسة تختلف عن كل المؤسسات في المجتمع كونها صانعة فكر ورأي وعلم ومعرفة. فما تبثه المؤسسة الإعلامية هو منتج فكري يحمل قيما ومبادئ وأفكارا تشكل الرأي العام والذاكرة الجماعية للمجتمع وتساهم في نهاية المطاف في تحديد سلوك البشر. خطورة التلوث الإعلامي الذي نعيشه هذه الأيام لا تكمن في الجانب المادي بقدر ما هي خطر على عقول الناس وضمائرهم وطريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور ونسيج قيمهم. ما نلاحظه اليوم في الفضاء الإعلامي هو دجل واستغلال واحتيال على الهواء والجميع يتفرج. فكيف يسكت الضمير الإنساني على طبيب يعالج مرض السرطان على الهواء وبمشعوذ يقرأ الغيب وينّجم وبتلفزيون الواقع الذي يقدم الحياة الخاصة لشبان وشابات على الهواء. فالسكوت على هذا التلوث الإعلامي الفضائي والذي هو في حقيقة الأمر تسميم وتحنيط عقول ملايين البشر هو المساهمة الجماعية في الخطأ والسكوت على أمر خطير يهدد المجتمع في أخلاقه وقيمه ومبادئه. الظاهرة تنتشر يوما بعد يوم ونوعية هذه الفضائيات تزيد كالفطر، والأمر بطبيعة لا يتوقف إذا لم تتحرك الجهات المعنية لإيقاف المشعوذين وتجار الأحلام والوعود الكاذبة والمتلاعبين بالمراهقين وبالشباب التائه الذي لم يجد من يضعه في الرواق السليم. إلى متى تبقى ظاهرة فضائيات الشعوذة والإباحية وفي انتشار كبير وسريع؟ وإلى متى يبقى المجتمع بمختلف شرائحه ومكوناته يتفرج على ظاهرة خطيرة جدا. المسؤولية كبيرة ومسؤولية الجميع، فبالنسبة لنا كعرب ومسلمين هناك جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني واتحاد إذاعات الدول العربية وغيرها من المؤسسات التي يجب أن تباشر في حدود صلاحياتها وإمكاناتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع لهذه المهازل والتجاوزات ولهذه الفضائيات التي تروج لأفكار ولقيم وأعمال تتنافى جملة وتفصيلا مع الشرع وقيم المجتمع.