29 أكتوبر 2025
تسجيلفي كل مرّة يحصل عدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، تتعالى الأصوات العربية، لاسيما من أوساط شعبية، ومن أحزاب سياسية وطنية تندد بهذا العدوان الصهيوني أو ذاك، لكنها تظل ردود أفعال يائسة، لا تغير من الأمر شيئا في واقع الصراع العربي-الصهيوني، حتى بعد أن انطلقت ما بات يعرف في الخطاب السياسي العربي "ثورات الربيع العربي"، إذ إن هذه الثورات لم تطرح قضية تحرير فلسطين ومجابهة العدو الصهيوني على برنامج جدول أعمالها.«إسرائيل واقع استعماري؟»، هذا ما تجاسر على طرحه مكسيم رودنسون عام 1967. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار أن إسرائيل هي جزء من «الظاهرة الاستعمارية» الأوروبية. إسرائيل في نظر العرب قاعدة إمبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى، وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي، ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي، سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية، هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعاً في العالم العربي، ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي ـ الأمريكي. إسرائيل ـ إحدى أقوى الدول عسكرياً في منطقة الشرق الأوسط، وصاحبة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة والحائزة على أفضل تشكيلات الحرب الحديثة ووسائلها ـ قامت في عام 1948، وشنت حرباً على الشعب الفلسطيني، وطبقت خططها البعيدة المدى للتطهير العرقي، الذي طبق بنجاح في ما يقارب 80% من أرض فلسطين دون أن يكون لذلك أي أصداء عالمية أو إقليمية. ولا يزال اليوم أكثر من ثلث الفلسطينيين يعيشون لاجئين تعساء في غالب الأحيان من دون أن تقر لهم دولة الكيان الصهيوني بأي حق في العودة، على الرغم من صدور القرار 194، ومن دون أن تقدم الدول العربية على استيعابهم ومنحهم حقوق المواطنة الفعلية، مخافة التوطين. فالشعب الفلسطيني أكسبته الكارثة التاريخية الجماعية التي حلت به منذ نكبة 1948، وهزيمة 1967، وعياً وطنياً وهو ينتظر أن يفي المجتمع الدولي بوعده لإيصاله إلى الاستقلال ضمن دولة قابلة للحياة. من وجهة نظر الأيديولوجيا القومية العربية المعاصرة لا تزال قضية فلسطين قضية قومية عربية، لا قومية سورية أو فلسطينية. وهذا يعني أن احتلال فلسطين، ليس اعتداء على فلسطين حدود سايكس ـ بيكو، ولا على سكان فلسطين الذين صورتهم خريطة الاحتلال البريطاني، إنه اعتداء على العالم العربي كله، إذا اعتبرنا العالم العربي واحداً، والأمة العربية واحدة، رغم حدود ساكيس ـ بيكو وكل حدود الاحتلال الاستعماري. والمشروع الصهيوني لم يقم من أجل فلسطين، بل قام فيها ليحقق أهدافه العربية، ومنها تثبيت التقسيم الإمبريالي، وحفظ المصالح الإمبريالية، ومنع تحقيق الوحدة القومية والتحرر السياسي والاجتماعي. وبالتالي، فإن تحرير فلسطين ليس شأناً فلسطينياً، إنه شأن عربي. إلا إذا اعتبرنا خريطة سايكس ـ بيكو حدود وطن. فإذا ما وصلنا إلى هذه القناعة، لم تكن هناك حاجة للحديث عن معركة قومية عربية، ولا عن علاقة عضوية بين فلسطين والعالم العربي. لقد كان من صلب المشروع الإمبريالي ـ الصهيوني، أن تتعامل قيادات الأقطار العربية مع كل قُطْر باعتباره وطناً، وأن تتعامل قيادات الطوائف كل باعتبار طائفتها «وحدة تامة»، فإذا ما انسجمنا مع هذا المطلب، انسجمنا مع المخطط الإمبريالي ـ الصهيوني. ولما كانت فلسطين لا تحرر فلسطينياً، فإن تغليب القُطري، يعني فقط البحث عن تسوية مذلة. وهذا ما تفعله القيادة الفلسطينية الرسمية اليوم. وإذا ما طرح الفلسطيني في مواجهة الصهيوني، أثارت القضية الشفقة العالمية، لأن الصهيوني المشرد، يشرد الفلسطيني المسكين. وما دام الفلسطيني لا يستطيع هزيمة الصهيوني هزيمة ساحقة وحده، لأن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الإمبريالي، ولأن المعركة هي معركة هزيمة الإمبريالية الأمريكية أساساً، والكيان الصهيوني باعتباره جزءاً من الهيمنة الإمبريالية، ولأن المستوطنين الصهيونيين في أرض فلسطين أكثر عدداً من عرب فلسطين الباقين في أرضهم، وبسبب التفوق الصهيوني العسكري.. إلخ.. فإن الحل، بالنسبة للعالم لا يعدو أن يكون «تسوية» في أحسن الأحوال، إذا أصبح النضال الفلسطيني جدياً إلى درجة، تسمح بفرض تسوية، وإذا ساعد الوضع العربي والدولي في ذلك. أما عندما تطرح القضية على أنها قضية ثلاثمائة وخمسين مليون عربي ، فإن الأمر يختلف، ويصبح التحرير وارداً، والانتصار حتمياً. ولذلك فإن الحل الصحيح هو الحل القومي، والحل القومي يجب أن يغلب، لأنه الحل الوطني الوحيد. أما الحل القطري فهو التصفية، وهو ليس حلاً وطنياً. فما معنى أن يتغلب الحل القومي؟ إن هذا يعني: أولاً: إن تحرير فلسطين مهمة قومية، وإنه من مسؤولية كل مواطن عربي، وكل حزب عربي قومي، وكل قوة قومية. وأن هذا يعني أن يوضع التحرير في موقعه من المهمات القومية، وباعتباره هدفاً رئيسياً، لا يعلو عليه أي هدف آخر، من حيث الأهمية، وأن كل الإمكانات يجب أن تسخر لتحقيقه. ثانياً: إن أي عمل في فلسطين لتحرير فلسطين، يجب أن يكون جزءاً من هذا العمل الكبير، لا خارجه، ولا بموازاته، حتى يأخذ بعده القومي، وقوته القومية، وحتى لا يتحول إلى عمل طفولي أخرق، أو استسلامي ضائع. فما الذي حصل، خلال سنوات الصراع مع العدو الصهيوني؟ لقد حصلت مفارقتان: الأولى: تراجع العمل القومي لتحرير فلسطين كثيرا، لأن الدول العربية جميعها أصبحت مع التسوية ومنخرطة في عملية السلام المتوقفة منذ سنوات عديدة.. ولذلك عملت على التخلي عن الجهد القومي في تحقيق التحرير، كما حدث قبل عام 1948 وخلاله وبعده. وعلى الرغم من دخول الجيوش العربية حرب 1948، فإنها عملياً كرست وجود الكيان الصهيوني وقيام دولته.. وتبنت القوى القومية صيغة العمل الفلسطيني الراهن، عندما رأت هذه القوى، أنها ليست في وضع يسمح لها بخوض معركة التحرير مباشرة، وأن الرّد المباشر الهجومي على العدو الصهيوني، يهدد الأنظمة القائمة. ولذلك اختير أسلوب المجابهة المحدودة، عبر إنشاء م.ت.ف. بقيادة أحمد الشقيري، لتكون هذه المنظمة إطاراً سياسياً، بلا قوة، أو عبر تبني حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) الناشئة. وأثبتت القوى الفلسطينية التي تبنتها القوى القومية وغير القومية، من المنظمة إلى فتح، ومن الشعبية إلى الديمقراطية، على اختلافها، واختلاف برامجها وتناقضها في قضايا كالتسوية.. إلخ، أنها قوى عاجزة عن بناء القوى القادرة على قيادة الشعب نحو التحرير، وهذا العجز واضح بعد أكثر من أربعين عاماً وضوحاً لا لبس فيه، ولا نظن أن هناك من ينكر ذلك، وإن كان كل ذي علاقة يبرره. والثانية: بروز قُطرية فلسطينية، تحاول أن تجعل الفلسطينية «هوية قومية»، وأن تتحدث عن حدود فلسطين باعتبارها حدود وطن، وسمات الفلسطينيين باعتبارهم أمة. وبات شاغل هذه القُطرية إنشاء كيان فلسطيني، مثل أي كيان عربي. ولما كانت الأرض محتلة، والشعب مشرداً، وكانت القوى الفلسطينية العاملة، من أجل فلسطين غير قادرة على التحرير، وغير مستعدة لانتظار الزحف العربي، أو العمل لقيامه، صارت محاولة إقامة الكيان عبر «التسوية السياسة» هي الهدف الوحيد. في ظل هزيمة الحركة القومية العربية وتقهقر الحركة الاشتراكية على اختلاف تياراتها، وتعمق الطلاق التاريخي بين المجتمعات العربية والأنظمة القائمة، برزت إلى الواجهة السياسية والنضالية الحركات الإسلامية، التي قدمت توجها إسلامياً جهادياً «ثورياً». وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، انتشرت في «إسرائيل» انتشاراً كبيراً القناعة الأيديولوجية التالية، أن الدولة الصهيونية أصبحت تمثل «خطّ تماس دامٍ» بين الغرب والشرق، بين الحضارة «اليهوديّة المسيحية» - وهذا اختراع غريب إذا ما اطّلعنا على تاريخ الديانتيْن...- والحضارة الإسلاميّة. ولقد اعتبرت التيارات الأصولية المسيحية والصهيونية أن «إسرائيل» هي «موقع أماميّ للعالـم الحرّ ». وإذا كانت «إسرائيل» قد اكتسبت هذا المكان المميّز في الغرب، فذلك لأنّ الدولة الصهيونية تُعتبَر إرادة إلهية. وقد حوّل ذلك الصراعَ العربي- «الإسرائيلي»، الذي كان في البدء ميدانياً وإذاً سياسياً، إلى مواجهة ثقافية ودينية بين الغرب والإسلام.. إنه خطرٌ داهمٌ على العالم أجمع، انتشار نهج «صدام الحضارات» الذي يمتص طبيعة المشكلات المتعلقة بالأرض والسيادة والمواطنية والاستيطان والتحرر والثروة والفقر والتنافس بين الأديان والفجوة الثقافية، ويحوّر فيها، وكلها مجسَّدة في الصراع العربي – الصهيوني.