16 سبتمبر 2025
تسجيللا تعترف الدول الكبرى بأخطائها وإنما تفترض أن سلوكها معياري لا يلحقه أي نقص، ولهذا لم تقبل وزيرة الخارجية الأمريكية أن تعبر عن الأسف إزاء موقف بلدها تجاه النظام المصري السابق. فخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعها ونظيرها المصري وفي إجابتها على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة آسفة على الدعم الذي قدمته إلى نظام الرئيس مبارك، الذي قام ولسنوات طويلة باضطهاد وقمع معارضيه، بما في هؤلاء الرئيس محمد مرسي نفسه والذي كانت وزيرة الخارجية الأمريكية قد فرغت للتو من لقائه، قالت وزيرة الخارجية إن الولايات المتحدة كانت مثابرة في جهودها لنشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وإنهاء العمل بقانون الطوارئ والإفراج عن المسجونين السياسيين ولكن العيب من وجهة نظرها كان في النظام المصري السابق الذي رفض التجاوب مع النصائح الأمريكية. وهكذا فضلت أمريكا عبر ممثلتها الدبلوماسية الأولى أن تراوغ وأن تعيد تفسير التاريخ بدلا من أن تضع الأمور في نصابها الصحيح. أما الحقيقة التي لم تجرؤ وزيرة الخارجية الأمريكية على التصريح بها، فهي أن الولايات المتحدة ليست سوى دولة براجماتية كبرى، تقوم سياستها على البحث عن أنظمة قادرة على توفير الاستقرار الذي تحتاجه مصالحها، يستوي في ذلك أن تكون هذه الأنظمة أنظمة استبدادية أو ديمقراطية، كما يستوي أن تكون الطريقة التي يتحقق بها هذا الاستقرار هي القمع أو الانتخابات. وبناء على ذلك كان تاريخ الولايات المتحدة في المنطقة هو تاريخ من عدم الاتساق بين ما يتم رفعه من شعارات وما يتم فعله على أرض الواقع، وبين المناداة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لجميع الأمم وبين دعم أكثر الأنظمة قمعية طالما كان ذلك في مصلحة الولايات المتحدة. ورغم أن أمريكا تمتلك من القوة ما يعفيها من عبء التظاهر بما لا تنوي الالتزام به، إلا أن مشكلة الولايات المتحدة الأزلية أنها كانت دوما حريصة على توفير غطاء أخلاقي لأفعالها، الأمر الذي أسهم في بلورة تناقضها على نحو أوضح، حيث كانت أمريكا، في معظم الأحيان، على استعداد لمقايضة حريات الشعوب مقابل الحصول على مصالحها (والتي تتضمن استمرار تدفق النفط، التوصل إلى تسوية تريح بها حليفتها إسرائيل من عبء مواجهة المقاومة الفلسطينية، مواجهة فوضى ما بعد غزو العراق، ومواجهة خطر قيام ثورة إسلامية على غرار الثورة الإيرانية). ولهذا كان الأمريكيون يركزون على دعم الاستقرار في الدول الحليفة وعلى دمجها في الأسواق العالمية، بأكثر مما يهتمون بمقدار الدعم الشعبي الذي تحوزه، فلم تكن تقارير حقوق الإنسان في هذه الدول بخافية على الإدارة الأمريكية، ولكن محصلة سياستها كانت تصب في مصلحة دعم خطط الحكومات المستبدة في سحق المعارضة والحيلولة دون وصولها إلى السلطة بكافة الطرق. وحتى في الحالات التي حاولت الإدارات الأمريكية فيها أن تترجم شعاراتها بخصوص الديمقراطية بشكل فعلي، فإنها كانت تركز في برامجها لدعم الديمقراطية على الجوانب التنموية مثل التعليم والصحة وتمكين المرأة، فيما تتجاهل المناطق التي قد تتضمن صداما بينها وبين الأنظمة الحليفة لها، مثل الاعتراض على ما يضعه حلفاؤها من قيود على تشكيل أحزاب قادرة على المنافسة الانتخابية الحقيقية. بل إنه يمكن القول إن الإدارات الأمريكية وإن كانت أكدت كثيرا على أهمية الانتخابات وشفافيتها، فإنها كانت نادرا ما تعلق على الاتهامات بالتزوير التي كان المدونون يقدمون أدلة حية عليها. الاتساق إذن كان دائما العنصر المفقود في الخطاب والممارسة الأمريكيين، فأمريكا التي تروج لنفسها على أنها حامية حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم كانت مضطرة دوما أن تأتي من الأفعال والسياسات ما يتناقض مع ما تتبناه أو تدعيه من قيم. لذا يبدو غريبا أن تؤكد وزيرة الخارجية الأمريكية أن مواقف بلادها كانت متسقة، أو أنها قامت بما كان ينبغي عليها القيام به. غير أن سياسات أمريكا غير المتسقة قد أوقعتها أخيرا في ورطة كبيرة، فلأول مرة تقابل سياستها البراجماتية بمعارضة كثير من التيارات "الليبرالية والعلمانية" التي كانت تعتبر الأقرب أيدولوجيا ومصلحيا للولايات المتحدة. فقد تبين لهذه التيارات أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك الجرأة الكافية لتأييدها حتى لا تغضب حائزي السلطة الجدد، وأن الإدارة الأمريكية بعد أن اكتشفت عدم قدرة هذا التيارات على مواجهة الإسلام السياسي والانتصار عليه عبر صناديق الانتخابات سارعت بالتعامل مع الأمر الواقع وقبلت بوجود ممثل لجماعة الإخوان في الحكم، ضاربة بعرض الحائط وعودها لحلفائها، وتاركة إياهم ليلاقوا مصيرهم بعد أن أيقنت استحالة تمكنهم من تجسير الفجوة التي تفصلهم عن جموع الجماهير المصرية. الأمر الذي ترتب عليه خروج هؤلاء في مظاهرات ضد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية بوصفها تصب من وجهة نظرهم في اتجاه دعم شرعية الإخوان كما تمثل ضغطا على العسكر لتسليم السلطة إليهم، الأمر الذي يوحي أن أمريكا تجني الآن ثمرة سياستها المتناقضة التي مارستها في المنطقة لأكثر من سبعة عقود متتالية.