12 سبتمبر 2025
تسجيلنعوم تشوميسكي عالم لسانيات وفيلسوف وسياسي يساري أمريكي من الطراز الأول، من مواليد 1928 ومعاصر إلى الآن، الكثير من المهتمين بالسياسة يعرفونه كمعارض شرس للسياسة الخارجية الأمريكية ومساند لقضايا التحرر في العالم، كما أن الأكاديميين المتخصصين في علم اللغة يعرفون أن هناك عالم لسانيات أمريكيا أحدث ثورة كبرى في مجال اللغة وعلم النفس في القرن العشرين بنظريته التوليدية التحويلية في اللغة، حتى أنه في إحدى المحاضرات التي ألقاها تشوميسكي في اليابان تفاجأ الحاضرون حين عرفوا أن تشوميسكي عالم اللسانيات الحديثة هو نفسه المعارض والفيلسوف السياسي. وبالتالي فنحن هنا أمام شخصيتين تعيشان في جسد واحد، وسنحاول تبسيط نظريته في اللغة حتى يفهمها القارئ البسيط، ثم نعرّج على أفكاره السياسية التي لها علاقة متينة بما طرحه في علم اللغة.. فما هي نظرية تشوميسكي في اللغة؟ هناك منعرجان أساسيان في علم اللسانيات الحديثة الأول كان مع العالم السويسري فرديناند دي سوسير في بداية القرن العشرين مؤسس النظرية البنيوية في اللغة، والبنيوية ترى أن اللغة هي بمثابة هيكل وبنية يمكن دراستها وفهمها من خلال معرفة بنياتها الأساسية المتمثلة في الكلمات وعلاقة الدال بالمدلول حيث قرر حينها دي سوسير واللغويون من بعده أن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية أي حدثت هكذا بالصدفة في التاريخ البشري. والمنعرج الثاني في اللسانيات كان على يد نعوم تشوميسكي بنظريته التوليدية التحويلية حيث قدّم تشوميسكي انتقادات لاذعة للنظرية البنيوية متهمًا إيّاها بالاهتمام بالجانب الظاهري الخارجي للغة متجاهلة جانب التفسير الذي يمكننها من معرفة كيف يتكلم البشر..؟ وكيف يتعلم الطفل الصغير اللغة، وكيف يستطيع الأطفال إتقان ميكانيزم اللغة عن طريق السّماع، ولماذا البشر وحدهم القادرون على الكلام..؟ وكيف يستطيع الطفل الصّغير التّكلم بجملٍ لم يسمعها من قبل.؟ سأشرح النّظرية ثم أعطي مثالا يوضحها بشكل مبسّط، التوليدية التحويلية هي نظرية ركّزت على الجملة كوحدة تركيبية للغة بدلا من الكلمة في النّظرية البنيوية، وتعني أن البشر لديهم القدرة على توليد جمل جديدة من جملة بسيطة عن طريق ميكانيزمات التّحويل من جملة لأخرى يقوم بها العقل البشرى بطريقة فطرية ومتساوية بين كل البشر وسارية في جميع اللغات، وآليات التحويل هي: الترتيب، الزيادة، والحذف، الحركات الإعرابية، التّنغيم، ومثال على ذلك: «وليد يكتب مقالا»، هذه جملة أساسية بإمكاننا أن نولد منها جملة أخرى بالزيادة فنقول: كان وليد يكتب مقالا، وبإمكاننا أن نولد جملة أخرى بالحذف فنقول: كُتب المقال، مبنيا للمجهول. وبالترتيب فنقول: المقال كتبه وليد. وبالتنغيم وهو أن نقول الجملة بصيغة التّعجب: وليد كتب مقال..! أو بصيغة الاستفهام أو بصيغة الاستهزاء ويكون حينها للصوت الدور في قول الجملة وهذا هو التنغيم. الحركات الإعرابية كأن يتحول المفعول به إلى فاعل. وبالتالي فحسب نظرية تشوميسكي فإننا قد ولدنا جملا كثيرة من جملة واحدة عن طريق تحويلٍ في الجملة الأصلية، وعملية التّوليد في الجملة تكون مستمرة. كما أن تشوميسكي يقول ان بين تلك الجمل التي أردناها هناك بنية سطحية تتجلّى في الجمل المتولدة التي كتبناها، وهناك أيضا بنية عميقة ليست مرئية وليست مسموعة، وإنما العقل يدركها ويعرفها ويستعملها لا شعوريا في الكلام، فعملية التوليد والتحويل على الجمل هو ما يقوم به الإنسان عندما يتعلّم لغة ما، وبالتالي الأطفال لا يتعلمون اللغة عن طريق حفظ الكلمات والجمل عند سماعها كما يقول أصحاب المدرسة السلوكية، وإنما هناك في العقل حسب تشوميسكي منطقة أو جهاز ما يعمل على إتقان ذلك الميكانيزم أو الآلية، وعندها سيصبح الطفل الصّغير قادرا على التّلفظ بجملٍ لم يسمعها من قبل، وهذا ما عجزت البنيوية والمدرسة السلوكية عن تفسيره. وأيضا فمن إضافات تشوميسكي فكرة الكفاية والأداء التي جاء بها هذا المفكر العبقري التي تعني بأن الطفل مثلا حين سماعه وهو صغير لوالديه وهما يتكلمان فإنّه سيصل إلى مرحلة الكفاية ويصبح قادرا على أداء اللغة بكل إتقان، ويستطيع بناء جمل جديدة بكل سهولة، والكفاية هنا لا تعني القدرة على قول جملٍ صحيحة نحويا فليس هذا ما تقصده النّظرية، لكن تعني القدرة على التّحويل والتّوليد، فمثلا تقول لابنك الصّغير الذي بدأ يتكلم حديثا: أخرج من هنا.. سيقول لك: ما أخرجش.. أي أنه أتي بجملة جديدة نافية للجملة الأولى وقد يكون لم يسمعها من قبل، فكيف إذن يقول الطفل جملا جديدة لم يسمعها وبكل سلاسة وهنا تعجز السلوكية كمدرسة في علم النفس عن التفسير، لذا فقد ولدت مدرسة أخرى في علم النفس هي مدرسة علم النفس المعرفي معتمدة على أفكار نعوم تشوميسكي بالتّحديد. كما أن نظرية تشوميسكي هذه كان لها تأثير كبير على الفلسفة والعلوم الاجتماعية الأخرى، لأنّها تقرُّ بأن اللغة فطرية أي أن العقل موجود والذي تجاهلته العلوم الإنسانية والفلسفة منذ القرن التاسع عشر، وسادت التّجريبية التي ترى كل شيء يأتي بالتجربة، ولا توجد أفكار فطرية لدى البشر، ولكن بعد تشوميسكي العقل عاد للفلسفة وللعلوم الإنسانية وبالعلم والدليل القاطع لأنّ التّجارب في العلوم العصبية وفي علم نفس الإدراك تثبت ما أقرّه تشوميسكي بوجود منطقة في المخ مسؤولة عن اللغة والفهم فيها تتم خطوات فهم اللغة في عملية معقدة جدا كما يصفها تشوميسكي. ◄ الفلسفة السياسية عرف تشوميسكي بمعارضته الشّرسة للسياسة الخارجية الأمريكية وقد ألّف كتبا كثيرة في هذا المجال، وللإشارة فقط فإن كتب نعوم تشوميسكي هي من أكثر الكتب توزيعا في العالم كما أن كتاباته تعتبر الأولى في نهايات القرن العشرين كأكبر كتب يتم الاقتباس منها والاستشهاد بها من طرف العلماء والمختصصين. كما اشتهر مقال له نشره في الصّحف العالمية عن الاستراتيجيات العشر للسيطرة على الشعوب، وعندما تقرأه وتتأمل فيما يحدث في العالم لا يمكن لك إلاّ وأن تحيي هذا الكاتب الجريء والشّجاع خاصة حينما تكلّم عن استراتيجية الإلهاء، أي إلهاء الشّعوب بأشياء بعيدة عن مصلحتهم كما يحدث عندنا وفي العالم أجمع بكرة القدم وبالرياضة وبرامج تفسير الأحلام والسّحر وغيرها.. واستراتيجية اختلاق مشكلة ثم طرح الحل، مستعملة كثيرا عندنا في الدّول العربية.. واستراتيجية جعل المتمردين يشعرون بالذّنب وهذا يتجلي واضحا في الثّورات المضادة في الربيع العربي وهي مفتعلة لجعل شعوب المنطقة تكفر بالديمقراطية وبالحرية وتبرر لها الاستبداد والعسكرة. أما ما أضافه تشوميسكي كفلسفة سياسية هو تأكيده على فكرة وجود الطبيعة البشرية لدى البشر كفطرة أولية قبل أي تجربة وهذه هي الفكرة الأساسية التي تشترك مع نظريته في اللغة بوجود أفكار فطرية لدى البشر متساوون فيها تجعلهم يتعلمون اللغة بسهولة كما أن لهم مبادئ وأفكارا فطرية كالعدالة والحرية والمساواة بين البشر، وقد ناقش تشوميسكي هذه الأفكار في كتابه غريزة الحرية وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في كتاب بهذا العنوان، كما أن لنعوم تشوميسكي مناظرة جد راقية مع الفيلسوف الكبير ميشيل فوكو عن فكرة الطبيعة البشرية موجودة على اليوتيوب ومترجمة للعربية. وبالتالي فما رأيك بمفكرٍ وعالمٍ يؤمن بالطبيعة البشرية المشتركة للبشر، أي أن لهم قدرة متساوية في تعلم اللغة، وفي حب الحرية والعدالة والمساواة برغم كل الاختلافات العرقية والدينية واللغوية وغيرها إلاّ أن يكون يساريا تحرريا مثل نعوم تشوميسكي. (المصدر: الجزيرة نت)