31 أكتوبر 2025

تسجيل

التشدد والرّهان على تونس مرة أخرى

18 يونيو 2016

كما كانت تونس رائدة في إشعال جذوة الثورات العربية. فهي على ما يبدو تتقدم الصفوف بين الدول العربية على أكثر من صعيد. يُحسب لتونس أنها الدولة العربية الوحيدة التي تمكنت من العبور من فوضى الثورات إلى مرحلة بناء الدولة على أسس ديمقراطية. يُحسب لها كذلك أنها أول بلد عربي تخرج فيه الحركة الإسلامية الأكبر وهي حركة النهضة من ضيق "الإسلام السياسي" إلى رحابة "الديمقراطية المسلمة" كما يحلو لزعيم النهضة راشد الغنوشي أن يسمّيها. وعلى ضبابية المصطلح والخوف من إجهاض مستلزماته وتوقعاته إلا أنه حرّك المياه الراكدة في أيديولوجيات الحركات الإسلامية وحاول إخراجها من دائرة الصراع المكرر مع السلطة على نحو دائم، طارحًا قضايا أكثر واقعية ونفعية للمجتمع الباحث عن لقمة عيش كريمة ومعاملة إنسانية مستحقة واختبار نهضة طال الزمن دون أن تُوضع تربة صالحة لاستنباتها.العلمانية التونسية، وعلى خشونتها الأيديولوجية غالبًا، إلا أنها هضمت وجود حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية كحال النهضة في الحياة السياسية مع تحفظات أقرب إلى الهواجس منها إلى المحددات الأيديولوجية المقفلة على ذاتها. وهذا يراكم من رصيد الكتل العلمانية التونسية التي اعترفت بالآخر المخالف وحقوقه السياسية طالما أنه ندّ لها في المواطنة واحترام القانون. لا يجاريها في هذا إلا شجاعة الرئيس السبسي الذي لم يلن للمغريات الكثيرة، داخليًا وخارجيًا، التي كانت تدفعه دفعًا لنسخ النموذج المصري في إقصاء الإسلاميين عن الحكم وملاحقتهم وتكدير حياة من يفكر في التعاطف معهم. دفع السبسي ثمن خياراته السياسية، فانقسم حزبه، ربما بتحريض خارجي، وربما لأسباب موضوعية. لكن المؤكد أن الانفتاح على النهضة كان من الأسباب التي أحدثت الانقسام داخل "نداء تونس" أو عجلت في إخراجه على الشكل الذي تمّ فيه. حرص السبسي على الشراكة السياسية مع حركة النهضة وإن كانت الشراكة المعروضة غير عادلة. وقد قبلت النهضة اليد الممدودة لها من السبسي دون أن تفكر بالعدل في التوزيع، فهمّ بناء الوطن على أسس من المساواة والعدالة في منح الحقوق كما في طلب الواجبات أضحى أهمّ لديها من مناصب سياسية تعلم يقينا أنها كانت ستوردها المهالك لولا أنها خرجت من الحكم في الوقت المناسب ووفق الطريق الأنسب للخروج.ربما الفضل الأكبر فيما وصلت إليه تونس اليوم هو لمؤسسات المجتمع المدني التي كانت أكثر نضجًا من الأحزاب السياسية المؤدلجة أو المتكلسة، فتصدرت قيادة قطار الأزمة حتى أوصلته إلى محطته المرجوة. لا شك أن تونس لم تحقق أغلب مطالب الثورة، وربما لن تحققها في المستقبل القريب، لكن يكفيها عملًا أنها جنبت البلاد سيناريو الدول المجاورة لها شرقًا. المعضلة الأبرز في مخرجات الثورة التونسية، وكحال غيرها من الثورات أنها كشفت عن مخزون جهادي كبير في تونس مقارنة بمثيلاتها من الدول العربية. لا تحديات الفقر والبطالة، ولا تطبيق الدستور وخلق مناخ سياسي سليم، ولا مكافحة الفساد والقضاء على البيروقراطية في مؤسسات الدولة هي التحديات الأخطر التي تواجه الدولة التونسية راهنًا، بل هناك تحدٍّ، ربما لا ناقة للدولة التونسية في إيجاده، ولا جمل. فآلاف التونسيين المنخرطين في صفوف تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية يجوبون الأرض قتلًا وتدميرًا، في تونس كما في ليبيا كما في سوريا والعراق. ظاهرة حيّرت الباحثين في كشف أسبابها ومولداتها. قلّة فقط من يقولون إنها أزمة فكر معطوب. وكثيرٌ هم الذين يرونها تجليات خشنة جدًا لمعضلات اقتصادية واجتماعية أساسًا. في دراسة له حول تونس، يتوصل البنك الدولي أن 33 بالمائة من الشباب التونسي الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما هم "خارج دائرة التعليم والعمل والتدريب"، وهي من أعلى المعدلات في المغرب العربي. وإذا ما أضيف له عجز الحكومات ما بعد الثورة وفشلها في الحدّ من تفاقم الوضع الاقتصادي سنصل إلى خلاصة مفادها: تردّي الوضع الاقتصادي أدى إلى "إذكاء تطرّف شباب مهمش" وفقًا لمركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط.المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية التونسية في كتاب أصدره سنة 2015 تحت عنوان "السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات" يحلّل الظاهرة ويفسر انتشارها وسلوكياتها بما يسميه بـ"العطوبة الاجتماعية" التي تبرز في المرحلة الوسطى بين الانفكاك التام عن المجتمع الأصلي وبين الاندماج فيه. بعد ذلك يأتي سحر الأيديولوجيا الجهادية التي تتمتع بقوة جذب لمن يعاني العطوبة الاجتماعية حيث تحقق له بعض الرغبات المادية وتأخذه إلى عالم آخر "روحاني" إلى جانب عالم الجماعة، كما تمكنه من استخدام العنف في سبيل هدف "مقدس". لا شكّ أن الظاهرة معقدة، والحلول المطروحة لوقف تدفقها تعجز عنها تونس حاليًا، لكن البلد الذي تجنب سيناريوهات مدمرة، هل سينجح في اجتراح حلول غير تقليدية في تصويب الفكر المتشدد بعد أن تحول إلى ظاهرة عامة تهدّد وحدة المجمتعات العربية وهويتها الفكرية؟