13 سبتمبر 2025
تسجيلالكذابون في كل عصر ومصر هم أداة الإرجاف، ومن عندهم تبدأ أصوات الخلاف، وبأيديهم تكون حفر النيران التي يصطلي بها كل من سلم أذنه لكذاب مَهين تعود السوء وأساء الأدب، لأنه:لا يكذب المرء إلا من مهانتهأو قالة السوء أو من قلة الأدبإن الكذب خلق مقيت، فلا تجد مصلحا أو فيلسوفا إلا وذكره، ولم يخل ديوان العرب من الحديث عنه والتحذير منه، فمثلا نجد في العصر الجاهلي الذي كان يعتمد على الشفوية في نقل الأخبار، وهذا مظنة الكذب والتدليس، إلا أن الصدق في نقل -الرواية والحديث كان خلقا يؤكدون عليه ويذكرونه في شعرهم مثل قول أفنون بن صريم التغلبي:ولا خيرَ فيما يَكْذِبُ الْمَرءُ نَفْسَهوَتِقَوَالَه لِلشِّيءِ يَا لَيْتَ ذَا لِيَاوواضح أن الكذب فيها ليس على الناس وإنما هو الكذب مع النفس التي ترى الحقيقة ولا تصدقها، وترى الشيء وتتمناه.وأحيانا يذكر أهل الجاهلية الشيء على سبيل المبالغة لا على سبيل الكذب وإثارة الشائعات، مثل قول تأَبطَ شرًّا يقول على سبيل المبالغة والمجاز لا الحديث عن الخلق:أجارِي ظلالَ الطير لو فات واحدٌولو صدقوا قالوا له هو أسرعفهو يقول إنهم يصفون سرعة عدوه بأنها تجاري سرعة الطير، ولكنه يستدرك عليهم بأنهم لو صدقوا لقالو هو أسرع.ويؤكد مالك بن حريم على أن الكذب كان خلقا ممقوتا في الجاهلية، فيقول:تَدَارَكَ فَضْلِي الأَلْمَعِيُّ وَلَمْ يَكُنْبِذِي نِعْمَةٍ عِنْدِي وَلا بِخَلِيلِفَقُلْتُ لَهُ قَوْلا فَأُلْفِيتُ عِنْدَهُوَكُنْتُ حَرِيًا أنْ أُصَدِّقَ قِيلِيبِذَلِكَ أوْصَانِي حَرِيمُ بنُ مَالِكٍبِأنَّ قَلِيلَ الذَّمَّ غَيرُ قَلِيلِهذا في العصر الجاهلي أما أمتنا فقد ابتليت في تاريخها الطويل بجملة من الكذابين كانوا سببا في خروج علم الرجال والجرح والتعديل الذي تفردت به حضارة الإسلام عن غيرها من الحضارات، من أجل ذلك أردت في هذه المقالات أن أتناول هذه الظاهرة وسلبياتها في المجتمع من خلال التركيز على الكذابين وآثارهم الضارة التي أحدثوها؛ حتى يحذرها الناس ولا يسلموا آذانهم لأي قالة تقال، أو أية شائعة تذاع.والكذب موضوع شغل كثيرا من الكاتبين والمؤلفين، حيث نرى الدراسات فيه تتنوع إلى دراسات نفسية واجتماعية ودينية وسياسية، فابن أبي الدنيا ألف كتابا في ذم الكذب، ومن المحدثين الدكتور محمد مهدي علام الذي تحدث عن فلسفة الكذب وكتاب يوسف ميخائيل الذي تحدث عن الكذب وأثره في الإنسان وكتاب الحقيقة بشأن الكذب ..كيف تكشف الكذابين وتحمي نفسك؟ لستان بي ولترز، وكتاب عباقرة الكذب لخالد عبد الله، وكتاب سيكولوجية الكذب لعدنان يوسف والكذب في سلوك الأطفال لمحمد علي قطب الهمشري، وكتاب صناعة الكذب ..دراسة في أشهر القصص الخبرية المفبركة في الصحافة المصرية لياسر أبي بكر وكتاب 17 كذبة تعوقك عن التقدم والحقيقة التي ستحررك لستيف تشارلز..ويلاحظ على هذه الكتب جميعا أن مؤلفيها هم من القدماء والمحدثين ومن العرب والأجانب؛ فهو إذًا ظاهرة إنسانية تؤرق المجتمعات، ومن ثم يحاول المفكرون والمصلحون أن يبحثوا لها عن أسباب مظاهر وحلول.غير أني في هذه المقالات لن أتناول الظاهرة؛ فقد قتلت بحثا وكتابة كما سلف، وإنما أتحدث عن الكذابين الذين كان لهم دور سلبي في تاريخ الإنسانية؛ كإبليس كبير الكذابين الذي كذب على آدم وحواء وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وكمسيلمة الكذاب الذي كان سببا في حرب اليمامة، وكنوح بن أبي مريم الذي اشتهر بالكذب في الحديث وكحماد الراوية الذي كذب في رواية الشعر أمام المفضل الضبي وغيرهم الكثير ممن تعرض لهم هذه المقالات التي ستتبع تاريخ هؤلاء الكذابين وأشهر كذباتهم ثم تعرض لتأثيرهم في الرأي العام ومدى تقبل الناس لسماع الكذب.إن هؤلاء الكذابين يمثلون أنماطا لشخصيات تعيش بيننا تردد الكذب ليل نهار وبسببها تسفك الدماء وتنتهك الأعراض، وتسلب الأموال، ولذا سوف يشعر القارئ أمام الشخصيات التي سنعرض لها أننا أمام شخصيات واقعية تقول الكذب. والشاهد "وكنت حريا أن أصدق قيلي" فهو حديث عن الصدق في القول والوفاء بالوعد؛ لأن الكذب طريق الذم وقليل الذم ليس بقليل.وهذا يفسر ندرة ذكره، فالكاذب يتسم بالجبن والبخل والعربي في الجاهلية كان شجاعا كريما كما تبين، وقد حرم بعضهم الكذب في الجاهلية وصرح بذلك بعد أن دخل الإسلام، سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب الزبيدي من أشجع من رأيت، فذكر له كلاما طويلا ومنه "اعلم يا أمير المؤمنين أني لم أستحل الكذب في الجاهلية فكيف أستحله في الإسلام" ثم قص عليه مواقف في الشجاعة والحيلة والجبن